جماعة غولن.. عندما ينتقل التصوف من الإرجاء إلى التآمر

ومن يراقب بعض الجماعات الصوفية في عالمنا الإسلامي، يجد فيها الكثير من هذه الصفات، أما جماعة الخدمة فهي نموذج مثالي لهذه الحركات. والمشكلة في هذه الجماعة لا تقتصر على بنيتها السرية، فالمخاوف تتجاوزها إلى طبيعة انتماء هذه الجماعة وأهدافها النهائية، حيث ظهرت في السنوات الأخيرة شهادات وتصريحات تتهم غولن بوشايته ضد الإسلاميين منذ انقلاب عام 1971، كما نُشرت وثائق تدعي أنه انضم إلى الماسونية نفسها في شبابه، وأنه تلقى تكريماً من محفل ماسوني في السبعينيات، ما يعني أن الرجل لم ينقلب على مبادئه المعلنة بل كان -كما يبدو- يبطن شيئاً ويظهر آخر

عربي بوست
تم النشر: 2016/07/30 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/07/30 الساعة 04:39 بتوقيت غرينتش

كنتُ ولا أزال أرى أن عودة الإسلام إلى مجده تتطلب استخدام أدوات العدو نفسها التي تم بها إسقاط الخلافة، فبعد أن فشلت الجيوش المسيحية الجرارة في هزيمة العثمانيين، وفشل اليهود في شراء ذمة السلطان، نجحت الجمعيات السرية في التغلغل إلى مفاصل الدولة ونخبة المجتمع وتمكنت من تفكيك الإمبراطورية العظمى وهدم نظامها السياسي وإقامة أكثر الأنظمة العلمانية تطرفاً مكانه..

وبما أن العدو ما زال يراقبنا بأكثر مجساته حساسية؛ منعاً لأي صعود إسلامي محتمل، فلا مناص من العمل السري الممنهج، ولكن يبدو أن إحدى تلك الحركات الإسلامية -التي تفاءل الكثيرون بأنها تقوم بهذا الدور- لم تكن سوى غطاء للعدو نفسه وليس العكس.

انتشر مؤخراً تسجيل مصور لزعيم حركة الخدمة التركية فتح الله غولن، يعود إلى أواخر التسعينيات، وهو يتحدث إلى أصحابه عن ضرورة التغلغل في مفاصل الدولة العلمانية آنذاك؛ بهدف النفاذ إلى عمقها وتعديل الدستور بما يحقق مصالح المسلمين المضطهدين، وكان ينصحهم في نهاية التسجيل بكتمان السر.

ويبدو أن غولن تحالف فعلاً مع الإسلامي الصاعد آنذاك زعيم حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان لتحقيق مصلحة مشتركة، وهي -على الأقل- إقصاء العلمانية المتطرفة عن الاستبداد بالحكم، وبدا آنذاك أن غولن كان يهيئ السياسي الشاب (أردوغان) ليساعده في خلافة نجم الدين أربكان، مستفيداً من أخطاء الأخير التي أوقعته في فخ الجيش وأودت بحكمه، ولم يخطر ببال أحد أن غولن كان يعد نفسه ليكون هو خليفة أربكان، وأنه كان يتخذ من أردوغان كما يبدو مجرد مطية له.

فمنذ عام 2013 بدأ الصراع الخفي بالخروج إلى العلن، وأخذت وسائل الإعلام بالكشف عن مطالبة جماعة غولن من أردوغان بالاستحواذ على أجهزة الشرطة والاستخبارات ووزارة الخارجية، فضلاً عن الحصول على 150 مقعداً في البرلمان، لتبدأ الحكومة بمواجهة هذا المطامع بالسلطة ولتكتشف أن حلفاء الأمس الذين سُمح لهم بالتغلغل في آلاف الوظائف الحساسة، مستعدون للانتقال إلى طرف المعارضة بكلمة واحدة من "الأستاذ" القابع في مزرعته بالولايات المتحدة.

الزهد المزيف
في العام الماضي أنتجت جماعة غولن وثائقياً بعنوان "وقت المخيم" وعرضته على قناتها الخاصة "حراء"، وقيل إنه يعرض طريقة حياة غولن في مزرعته بولاية بنسلفانيا الأميركية، ويبدو أن الهدف من عرضه هو الرد على الاتهامات الموجهة له وإقناع المشاهد أن الشيخ ليس سوى علّامة ناسك، وأنه انقطع عن الدنيا في ذلك المنفى للتعبد وتعليم الناس، لكن الفيلم لم يختلف في شيء عن أي عمل دعائي (بروباغاندا) تنتجه أي جماعة دينية لتقدم نفسها في أجمل صورة، حيث اختار المنتج كما يبدو التصوير في أكثر أيام الشتاء قسوة لإقناعنا بأن كل ما نراه ليس سوى مخيم للطلاب والمريدين في مكان مقفر، مع أن البحث على الشبكة يظهر أن المزرعة تحفل في بقية أوقات السنة بطبيعة غناء، وأن موقعها اختير بعناية في منطقة جبلية تكسوها الغابات، ثم تم تسييجها من كل الجهات ونصبت حراسة مسلحة على بوابتها.

ومع أن قصر غولن الضخم لا يتمتع بالكثير من الفخامة، إلا أن المخرج الحريص على إبراز مظاهر الزهد لم يستطع إخفاء أكثر نواقض الزهد وضوحاً، وهي العظمة التي لا يكاد يراها أتباع الجماعات الدينية المنغلقة، فهم يقصرون فهمهم للشهوات والملذات على الطعام والشراب والنساء والزخارف، وبما أن غولن لم يتزوج وهو يأكل طعاماً خفيفاً ويخلو قصره من الزخارف، فهذا يكفي في نظرهم لجعله قطباً من أقطاب الزهد، أما شهوة السلطة صارخة الوضوح فلا تكاد تلفت نظر أتباع هذا النوع من التصوف الطرقي.

يوثق الفيلم أحد الدروس التي يقدمها غولن لطلابه، فهو يجلس وحيداً على أريكته بينما يجلس جميع الطلاب على الأرض، ومظاهر الخنوع وطأطأة الرؤوس لا تخطئها العين. أما قاعة الاجتماعات فتم تزويدها بعرش على أرضية مرتفعة تميز "الأستاذ" عن الآخرين، وتبقيه بعيداً عنهم، والمصيبة أن مقدم الفيلم يرى في هذا الكبْر تميزاً يستحقه "الأستاذ" وليس فضيحة كان من الحريّ به أن يخفيها عن المشاهد.

وعندما اقترب مقدم الفيلم مع الكاميرا من الغرفة الخاصة بالزعيم، انخفض صوته تلقائياً وكأنه في حضرة نبي، لنرى الصالون الخاص بالزعيم وقد تم تجهيزه أيضاً بكرسي خاص به وليس بقربه أحد، مع أن الصالون مخصص لاستقبال خواص الضيوف وكبار الشخصيات.

هذا المشهد يُذكرني بمقابلة تلفزيونية للدكتور محمد سعيد البوطي، كان يمتدح فيها انتشار خدمات جماعة غولن التعليمية، والملفت أن أول صفة امتدح بها الرجل هي "التواضع"، وهو أمر لم يعد يثير دهشتنا بعد انكشاف عقلية المدرسة الصوفية الإرجائية، فحتى اليوم لا يزال أتباع البوطي يحاججون بأنه عاش زاهداً ومات دون أن ينال من الرئيس القاتل أي مبلغ من المال، وفاتَهم أن البوطي نال من الأسد الأب وابنه ما هو أعظم بكثير من المال، وهو الجاه والسلطة، فلم يُسمح لغيره بالظهور في برنامج ديني على القناة الرسمية، وقُدمت له التسهيلات ليصبح المعلم الديني الأول في كل سوريا طوال عقود، وكان عليه في المقابل أن يؤيد الطاغية في حربه على الشعب المسلم حتى الموت.

والتاريخ مليء بأمثلة لا تحصى عن زعماء الحركات الدينية ورؤساء العصابات والطغاة الذين حرموا أنفسهم من ملذات الطعام والنساء والراحة البدنية، إلا أنهم كانوا مستعدين لتدمير دول وقتل شعوب كاملة في سبيل تحقيق السيطرة على البشر والانتشاء بشهوة السلطة.

جماعة سرية
قد تختلف الجماعات السرية في التفاصيل والأدوات والأهداف المعلنة، إلا أنها تتشابه في هيكليتها القائمة على التراتب الهرمي السري وتبجيل الزعماء والولاء المطلق للجماعة، وهي تعتمد على أنظمة التربية العسكرية بتنشئة العضو على الطاعة العمياء وتذويب الذات في بوتقة الجماعة، حتى يسلّم عقله للقادة؛ كي يزرعوا فيه عقيدتهم دون مقاومة أو حتى تشكيك، ويطيع أوامرهم دون مناقشة.

ومن يراقب بعض الجماعات الصوفية في عالمنا الإسلامي، يجد فيها الكثير من هذه الصفات، أما جماعة الخدمة فهي نموذج مثالي لهذه الحركات.
والمشكلة في هذه الجماعة لا تقتصر على بنيتها السرية، فالمخاوف تتجاوزها إلى طبيعة انتماء هذه الجماعة وأهدافها النهائية، حيث ظهرت في السنوات الأخيرة شهادات وتصريحات تتهم غولن بوشايته ضد الإسلاميين منذ انقلاب عام 1971، كما نُشرت وثائق تدعي أنه انضم إلى الماسونية نفسها في شبابه، وأنه تلقى تكريماً من محفل ماسوني في السبعينيات، ما يعني أن الرجل لم ينقلب على مبادئه المعلنة بل كان -كما يبدو- يبطن شيئاً ويظهر آخر.

ومن المعروف أن إثبات تهمة الانتماء للماسونية، يكاد يكون مستحيلاً ما لم يعترف الشخص نفسه أو المحفل بذلك، وبما أن إنكارهما ليس دليلاً على البراءة أيضاً فستبقى هذه الاتهامات معلقة دون جزم. لكن المهم هنا أننا أمام حركة سرية بامتياز، وأنها تغلغلت في مؤسسات الحكومة التي كانت من الموالين لها، بل من مؤسسيها، وأنها انقلبت عليها وتحالفت مع أعدائها التقليديين لتحتل مكانها بأقذر الأساليب، وهي مع ذلك كله أقرب إلى الغرب وإسرائيل من تلك الحكومة التي كانت حليفة لها.

علاوة على ذلك، وفي حال ثبوت صحة اتهامات الحكومة لهذه الجماعة بالتدبير للانقلاب الأخير؛ فلن يبقى هناك أي شك في خبث قائدها الذي أنكر ذلك، وسيتأكد عندئذ أن غولن يأتمر فعلاً بأوامر خارجية ضد مصالح بلاده، وهذا يعني أننا أمام حالة غير مسبوقة لجماعة سرية متصوفة انتقلت من خانة الإرجاء والخنوع للطاغية إلى السير على خطا الحركات الباطنية المنشقة عن الإسلام وموالاة العدو في الداخل والخارج للخروج على حاكم إسلامي عادل.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد