في مقدمة الطبعة الرابعة لروايته السّياسية السّاخرة: "يحدثُ في مصرَ الآن"، التي صدرت منتصف الثمانينات، تساءل يوسف القعيد: "هل الآن الذي تحدّثت عنه في الرواية وهو سنة 1974 لا يزال قائماً أم لا؟"، وأجاب بمرارة: أن يصبح آنُ هذه الرّواية ماضياً، إنّها الأمنية الضّخمة، ومن ضخامتها لا يستطيع الإنسان أن يحلم بها، خاصّة بعد أن فقدنا القدرة على الحلم منذ سنوات".
تتحدّث هذه الرواية عن زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى مصر، والاستعدادات الشعبية لاستقباله في إحدى القرى، وقد قُدّمت هذه الرّواية سينمائياً في التّسعينات تحت عنوان: "زيارة السيّد الرئيس"، وكان من أكثر المشاهد سخرية في هذا الشريط مشهد استخدام أهل القرية عن جهل لافتات قديمة تعود إلى العهد الناصري، ومنها صورة كبيرة للرئيس الكوبي "فيدل كاسترو"، تخلّلت الأعلام الأميركية يوم الاستقبال!
لقد حضرتني صورة هذا الشريط بعد زيارة الرئيس الباجي قايد السبسي إلى سوسة، والزوبعة التي أثارها استقباله بطريقة نوفمبرية.
لقد بدت يومَها الجمهورية الثانية في لباس قديم مهترئ، فعبادة الذّات تتعارض مع مفهومي الحرّية والكرامة، واستخدام أطفال المدارس للتعبير عن فرح المسؤولين الجهويين بزيارة الرئيس فيه اعتداء على حقوق المواطنة، وخرق لواجبات المؤسسة.
إجابة عن استفسارات الصحافة حاولت الناطقة الرسمية باسم رئاسة الجمهورية السيدة سعيدة قراش، ومعها المستشار لدى الرئيس نور الدين بنتيشة، التّقليل من أهميّة الموضوع، ثم تبريره بأشكال عدّة، فهذه الزيارة من وجهة نظرهم تكتسي طابعاً خاصّاً؛ إذ إنّ الرّئيس قد نزل ضيفاً على الجهة و"حكم الضّيف بيد المضيف"! ينطوي هذا التّبرير على مراوغة، فبروتوكول استقبال رئيس الجمهورية في الدّاخل والخارج يخضع كما هو معروف لتنسيق مُسبق مع القصر الرئاسي لدواعٍ أمنية وأخرى اعتبارية، من ثمّة كان يمكن للرئاسة أن تتحكّم في شكل الاستقبال وتُجرّده بما لها من سلطة من المظاهر التي تنتمي إلى الماضي، ولا معنى لتنصّلها من المسؤولية.
لقد كان يمكن للرئيس – لو أراد – أن يخلّص منظوريه من عقدة دفينة تتحكّم في غرائزهم السياسية، وتجعلهم أشبه بالكائنات الرخوة الزلقة في حضرة "أعلى هرم السلطة"، فقديماً قيل: "كان المهبول ياكل ويبة العاقل ما يعطيهالوش".
أما بخصوص توظيف أطفال المدارس في الاستقبال، فمن المؤكّد أنك لو سألت الأطفال عن رأيهم في الخروج من القسم للمشاركة في تجربة كهذه، لوجدت منهم إجماعاً على الموافقة، ولا يبدو عليهم أنهم مرغمون على فعل ذلك، لكنّ الإشكال الحقيقي الذي يتعارض مع قيم الجمهورية الثانية فعلاً، هو اتخاذ الإدارة القرار بمفردها، في المدارس الفرنسية على سبيل المثال لا يحدث هذا – طالما أن فرنسا هي المرجع والمثال دائماً لدى المتحدّثين باسم السلطة في تونس- في تلك المدارس يوزّعون استمارة تطلب موافقة ولي الأمر على خروج ابنه من القسم أيّاً كان المكان الذي سيذهب إليه، وفي ضوء تلك الاستمارات يوزع التلاميذ إلى فريقين: فريق يخرج، والآخر يبقى.
لقد وضعتنا زيارة الرئيس إلى سوسة أمام مشهد كاريكاتوري عبثي يشبه المشهد الذي تبدو فيه صورة فيدال كاسترو، وهي تتخلّل الأعلام الأميركية في نهاية شريط "زيارة السيد الرئيس"، فالاستقبالات الشعبية مرتبطة في ذاكرة الناس بزمن كان الرّئيس مسؤولاً فيه عن كلّ شيء، كانت الاستقبالات الحاشدة جزءاً من الاحتفالات بالأعياد الوطنية، أو تدشين المشاريع التنموية الكبرى، وكانت وسائل الإعلام تتحدث عن مشاعر الاعتراف بالجميل التي يعبّر عنها الشعب بواسطة الماجورات والمزاودية وفرق السطنبالي.
لكن السّبسي الذي لم تتخلّف الماجورات عن استقباله، رئيس بصلاحيات دستورية محدودة في زمن غابت فيه المشاريع التنموية الكبرى، وزيارته هذه إلى سوسة جاءت لمباركة مشاريع واستثمارات خاصّة، وقد اعتبرها الرئيس رسالة تشجيع موجّهة إلى كل المستثمرين، بينما يفهم من هذه الرسالة أيضاً أن لا تعويل على الدولة إلا بقدر ما تستطيع إعطاءه لرجال الأعمال، فمفتاح التّنمية بأيدهم.
إلى جانب هذه الرسالة حاول الرئيس إيصال رسائل أخرى أثناء إعطائه شارة انطلاق محطة التطهير، وأشغال توسعة الملعب، لكن الرسالة الأهمّ هي تلك التي أرسلها مستقبلوه من المسؤولين المحليين وصغار الموظفين، بمثل هذا الاستقبال النوفمبري الباذخ: "الكلب يمشي وراء العربة ويتخيّل أن ظلها هو ظله"!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.