تحدّت هيلاري كلينتون منافسها دونالد ترامب ووضعته في موقف دقيق يستوجب منه توضيح نفسه، وذلك ليلة أمس الاثنين في مناظرة رئاسية منقطعة النظير على مر التاريخ الأميركي لقيت معدلات مشاهدة غير مسبوقة وشهد لها الكل بأنها المناظرة الأغرب والأكثر إثارة.
فقد طالبته بتوضيح مواقفه من عائدات الضرائب ومن طريقة تعامله مع العمال، كما استوضحته عن موقفه الذي يبدو كمن يوشك أن يضغط على زناد السلاح النووي. أمامها كان ترامب يناور ويتفادى أسئلتها المباشرة متعللاً بالأعذار الواهية، فيما وقفت هي ترمقه بازدراء خفي، حسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، الثلاثاء 27 سبتمبر/أيلول 2016.
ولما شارفت المناظرة على النهاية قررت كلينتون أن تطلق العنان لنفسها بعدما ضاقت ذرعاً طيلة المناظرة، فانفجرت فجأة في وجه الطالب المدرسي المشاغب الفظ السيئ، السبعيني الذي لم يؤد فرضه المدرسي.
الجَلَد وقوة التحمّل
كان قد قال لها إنها لا تملك الجلد وقوة التحمل لتكون رئيسة للبلاد، فأجابته بانفجار مميت من جليد: "حسناً، عندما يسافر إلى 112 دولة ويناقش اتفاق سلام وهدنة وإطلاق سراح منشقين وفتح آفاق فرص جديدة حول بلدان العالم، أو حتى عندما يقضي 11 ساعة يؤدي شهادة أمام لجنة من الكونغرس، عندئذ له أن يحدثني عن قوة التحمل والجلد".
وفي نقطة أخرى من المناظرة أشارت المرشحة المرأة الأولى التي تشارك في مناظرة رئاسية إلى ماضي منافسها الجمهوري وسجلّه الحافل بالألفاظ النابية التي سخر بها من النساء، فذكرت المشاهدين بأليشيا ماتشادو المتسابقة في مسابقة جمال حينما سمّاها "السيدة خنزيرة" أو "السيدة منظفة المنزل"، فقالت له كلينتون: "يا دونالد لهذه المرأة اسم".
لم تكن تلك مبارزة البلاط الملكي بين كينيدي ونيكسون عام 1960. كانت كلينتون كثيراً تخاطب منافسها باسمه الأول دونالد، مثلاً سألته: "كيف حالك يا دونالد؟"، عندما تصافحا في البدء، كما قالت له: "دونالد، جميل اللقاء بك". ثم بعدها وحينما انقلب الجو واكفهر بسرعة عاجلته بالقول: "لقد التقيت بالكثيرين ممن غبنتَهم أنت وتجارتك يا دونالد".
كان دونالد دوماً يدعو منافسته الديمقراطية بالوزيرة كلينتون، ففي بداية المناظرة سألها: "هل يمكنني ذلك؟ لأنني أريدك أن تكون راضية وسعيدة جداً". بيد أن قناع التهذيب سرعان ما سقط وذاب حينما طفق يقاطع كلامها ويسخر وهز كتفيه ويزم شفتيه ويحاول مواجهة رصانة سلطتها بالأكاذيب. أما هي فقد ضيّعت على نفسها فرصاً للنيل منه بتحديقها المستمر فيه بازدراء مبطن خفي.
"مناظرة القرن"
مناظرة القرن تمت في جامعة هوفسترا في لونغ آيلند بولاية نيويورك، بدأت حينما صعد المتنافسان على خشبة مسرح أزرق داكن اللون تزركشه نجوم بيضاء وختم ضخم يمثل النسر الأميركي وغصن زيتون وبضعة أسهم وعبارة " الاتحاد والدستور إلى الأبد".
الأمة التي أنجبت باتمان ضد سوبرمان وكابتن أميركا ضد الرجل الحديدي هي نفسه الأمة التي حبست أنفاسها الآن فيما تشاهد مقارعة "أم العارفين" ضد "أبي جهل".
وقالت كلينتون إن السؤال الذي يكمن في صلب هذا الانتخاب هو ما نوع الدولة التي ترغب أميركا أن تكونها؟ فقالت: "اليوم عيد ميلاد حفيدتي الثاني ولهذا أفكر كثيراً بهذا الأمر"، فيما وقف أمامها ترامب صاحب البرنامج الشهير "المتدرب The Apprentice" محملقاً يحدجها بنظراته ويزم شفتيه وينظر شزراً نحو الكاميرا كأنما يحاول زرع عبارته الشهيرة في أذهان المشاهدين حينما كان يزمجر في وجه مشتركي برنامجه: "أنت مطرودة!".
لكن سرعان ما بدأ الطرفان يتحديان بعضهما سراعاً؛ فقد أمسك ترامب بالمنبر من الجهتين وانتفخت أوداجه واكفهر وجهه واخشنّ صوته وتبادل معها بضعة عبارات قاسية اللهجة تنم عن عداوة حقيقية بين الاثنين جذبت مشاهدي التلفاز أكثر فأكثر للمشاهدة.
قالت كلينتون إن ترامب وقف مع أزمة العقارات السكنية كي يربح ويجني الأموال، فلم يقاوم ترامب الرغبة العارمة التي تملكته كي يقاطعها ويصيح بها: "هذا اسمه بزنس على فكرة".
لكن لحظة تألق المرشح الجمهوري كانت حينما تناول المناظرة موضوع التجارة، وهو الموضوع الأقوى في كل حملة ترامب الانتخابية. هنا حاولت كلينتون الذود عن نفسها بالقول: "أرى أن زوجي أبلى بلاءً حسناً في التسعينيات، وإنني أفكر كثيراً بالأمور التي نجحت وقتها وكيف لنا أن نعيد استغلالها من جديد". فقاطعها ترامب بالقول: "نعم، لقد كان زوجك من سنّ اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية".
ثم ازداد التوتر فيما ازدادت مقاطعة المنافسين لبعضهما في الكلام حتى باتت مساءلات رئيس الوزراء البريطاني تبدو أكثر هدوءاً ورزانة بالمقارنة!
كرر ترامب على مسامع المشاهدين: "لقد سن اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، التي هي أسوأ اتفاقية تجارية في كل هذه البلد".
ثم ادعى ترامب أن كلينتون ساندت اتفاقية "شراكة عبر المحيط الهادي" مع آسيا قبل أن تغير رأيها، لكنها ردت عليه رداً صاروخياً لعله يلخص كل ما يمثله هذا الانتخاب بالنسبة لرجل الأعمال الشهير: "حسناً يا دونالد، أعرف تماماً أنك تعيش في واقعك الخاص".
وهكذا استمر حال المناظرة تلك الليلة على هذا المنوال. في وقت ما قال ترامب لكلينتون كأنما يحاول إثبات شيء ما: "لقد قضيتِ شبابكِ كله تحاربين داعش"، فلم تدرِ كلينتون كيف ترد واحتارت فيما تقول، فتلعثمت: "هذا.. هذا.. اذهب إلى الـ… رجاء أيها المحققون إلى عملكم".
ثم علقت كلينتون في وقت لاحق: "يخالجني شعور أني مع نهاية هذه الأمسية سوف ألام على كل شيء حدث وحصل وجرى في التاريخ".
فتساءل ترامب "ولم لا؟". فردت كلينتون "لم لا؟ نعم، لم لا!".
اشتباك
كذلك اشتبك الاثنان في موضوع عائدات ترامب الضريبية حينما وجَّهت كلينتون سؤالاً حاداً صارماً: "اسألوا أنفسكم لماذا لا يفصح عن عائداته الضريبية؟ أظن أن عدة أسباب وراء ذلك. الأول أنه ليس على ذلك القدر من الغنى الذي يدعيه، أما الثاني فلعله ليس رجلاً متصدقاً لأعمال الخير بقدر ما يدعي. وثالثاً، لا ندري نحن بكل تعاملاته التجارية"، وأضافت كذلك أن لعله لم يدفع أية ضرائب دخل قط.
فما كان منه إلا أن علق قائلاً: "هذا يجعل مني رجلاً ذكياً".
لكن كلينتون ضيعت على نفسها فرصة النيل منه في هذا الصدد! لقد اعترف الرجل الأبله لتوّه على الهواء مباشرة وأمام عشرات الملايين من المتابعين حول العالم بأنه لم يدفع قط ضريبة الدخل.
عرض ترامب أن يفصح عن عائدات ضرائبه إن كشفت هي رسائلها الإلكترونية المحذوفة، متهماً طريقتها في استخدام المعلومات الحساسة بأنها طريقة "مشينة"، ولكن مذيع قناة NBC المثير للجدل مات لاور نفسه حينما استضاف المرشحين على برنامجه Commander in Chief تحدث عن مسألة الرسائل الإلكترونية أكثر مما تمكّن ترامب أن يحتمل.
التباهي بالانتخابات
ثم في نهاية المطاف جاءت فقرة دسمة حول علاقات الانتخابات. هنا تباهى ترامب بأسفاره التي تحدث فيها إلى الناخبين الأميركيين السود الأفارقة، فقال لكلينتون: "لقد رأيتني كيف طفتُ بكل أنحاء البلاد، أما أنت فقررت البقاء في بيتك، لكن لا ضير في ذلك".
لكنها هنا ردت عليه رداً قاسياً كانت تجهزه له: "أظن أن دونالد ينتقدني لأنني كنت أتأهب لهذه المناظرة، بالفعل لقد فعلت، لكن أتعلمون من أجل ماذا أيضاً تأهبت وأعددت؟ لقد أعددت لكي أكون الرئيسة، وأظن ذلك أمراً جيداً".
ثم سُئل ترامب عن محاولاته الجاهدة لزرع الشكوك في مكان ولادة أوباما، فرسب في اختبار هذا السؤال، وهو ما كان النقطة الحاسمة في هذه المناظرة حينما قال: "لا أقول شيئاً لأنني تمكنت من جعله يخرج شهادة ميلاده. لقد كان ينبغي عليه إخراجها منذ وقت طويل. لن أقول شيئاً".
أما في مسألة الأمن القومي والسياسة الخارجية فكان ترامب يرغي ويزبد. عمدت كلينتون إلى تكرار عبارة شهيرة كانت قالتها في خطاب المؤتمر الديمقراطي حينما قالت: "إن رجلاً تستفزه تغريدة تويتر ينبغي عليه ألا يترك إصبعه بجوار زر".
فأجابها ترامب: "باتت عبارتك هذه قديمة بالية". فعاجلته سريعاً: "لكنها عبارة جيدة وتصف المشكلة بشكل جيد".
ثم في نهاية الجولة الأخيرة كانت الضربة القاضية في موضوع التحيز والتحامل ضد النساء وموضوع الجلد
والقدرة على التحمل، وهنا حسم الأمر. ورغم كل الضغائن والتوتر انتهت مناظرة القرن مثلما بدأت: بمصافحة بالأيدي وبتربيت ترامب على ظهر كلينتون مرتين. لاحقاً قال ترامب في مقابلة تلفزيونية إنه مارس ضبط النفس بطريقة بطولية حينما تغاضى عن التذكير بخيانة زوجها في الماضي إكراماً لابنتهما تشيلسي. لكن ليته لم يضبط نفسه وليته قالها، لأن ذلك لم يكن ليزيده سوى مسخرة صبيانية في الأعين.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.