يوجد طريقتان للعيش؛ إما أن تعيش وترى كل شيء معجزة، أو تعيش ولا ترى أى شيء معجزة، وهذا ما لمسناه في إعجاز الثورة التكنولوجية ودورها الرائد في تذليل الصعاب وكسر جمود الأفكار ورفع هيبة الأمم، وقد تمثلت بمبدئها حول فكرة الأوتوماتية ودورها في اللقاء المباشر بين العمل والإنتاج، والتي فرضت نفسها بشكل كبير عن النمط الحرفي العسير باعتمادها لروح الميكنة والتحكم الآلي.
فبالنظر للهيمنة المعلوماتية وتأثيرها على تركيبة الطبقة العاملة في مصر، فقد أدركنا أبعادها ولو بشكل كيفي في نوعية الإفادة التي ستخرج من وراء استخدامها في القطاعات المختلفة، لكنها لم تشمل كل مؤسسات الدولة، فقد يكون مرسوماً بعقلية تقليدية ترسخ لديها بعدم القفز خارج الصندوق، فتولدت لديهم كعقيدة جامدة رثة، ومنهم الجاهل الذي يفتقر للآليات في فهم المعاني وتطوير الذات، والثالث متمثلاً في الحرمان فقيراً شحيحاً لا يملك المال مثله مثل كثير من الناس.
نعي أن مفهوم الطبقية بمصر ارتبط بشكل وثيق بالإنتاجية، فتطورات بنية الطبقة العاملة المصرية مرت بعدة مراحل:
الأولى: مرحلة ما قبل التأهيل؛ حيث سيطرت الرأسمالية والنفوذ الأجنبي على الاقتصاد وموارد البلاد، وعلى الجانب الآخر عمال عنابر السكة الحديد وعمال الترام وهؤلاء كانوا القلب النابض لتلك المرحلة من أجل استعادة الروح المسلوبة من عنجهية البرجوازية في ظل وجود الاستعمار البريطاني الذي يعصف بمقدرات البلاد.
الثانية: تميزت تلك المرحلة بالصدام الواقع بين الوفديين والنقابات العمالية في معركة لتكسير العظام من أجل إثبات الذات، وحق تقرير المصير، في محاولة لتأسيس اتحاد عام للنقابات، فظهر عمال الغزل والنسيج كفئة تلعب دوراً مهماً في بنية الطبقة العاملة وخطط الإنتاجية المرجوة.
الثالثة: وبها تقلص النفوذ الأجنبي الغاشم وزادت معها صعود الرأسمالية المصرية، ومنها تبلورت مراكز عمالية مجابهة في بؤر جديدة كشبرا الخيمة والمحلة الكبرى وتصعيد ناعم للاشتراكيين لكسب تعاطف المهمَّشين.
الرابعة: تميزت هذه الفترة بصعود أكبر للرأسمالية وإسقاط الإقطاع، وشكلت المؤسسة الاقتصادية كمنظومة مهمة للبلاد في ذلك الوقت، ولأول مرة تأخذ الطبقة العاملة كيانها، ويصبح لها صوتها التشريعي في برلمان 57، وبداية جديدة للاتحاد القومي؛ ليكون تنظيماً سياسياً بديلاً لهيئة التحرير.
الخامسة: دخلت مصر عصر الصناعة، وذلك بعد الإعلان عن الانفتاح الاقتصادي ومواكبة حركات تصنيع كبرى وظهور الصناعات الحربية والثقيلة… وما تلى ذلك من نشأة القطاع العام الذي دعم مراكز صناعية جديدة، مثل كفر الدوار وطنطا وحلوان.
السادسة: شهدت هذه المرحلة انقضاضاً على أيديولوجية عبد الناصر وصعوداً تدريجياً لطبقة البروليتاريا وتقلص دور القطاع العام، وفتح الباب أمام رأس المال الأجنبي الأهوج، مع التوسع في منحه المزيد من التسهيلات الهدامة.
وآخر تلك المراحل، هي التي أعلنت عن نفسها بانطلاقة هائلة للقطاع الخاص، والإجهاز على ما تبقى من القطاع العام، وما تبع ذلك من موجات مدوية متعاقبة لغلاء الأسعار وتفشي ظاهرة البطالة المقنعة توَّجتها الأزمة الاقتصادية العالمية.
أثناء ذلك اتضحت لنا الرؤية شبه كاملة بتراجع دور الطبقة العاملة التقليدية في عملية الإنتاج، وعلى التوازي تنامت شرائح المجتمع، وتحللت أخرى، وأذيبت الحدود الطبقية القديمة، ودججت اليوم بأسلاك شائكة، فتهدمت الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد.
إن البطالة مشكلة اجتماعية واقتصادية كبيرة جداً في عالمنا العربي، وتعتري مجتمعنا المصري بالأخص بشكل أبعد ما يكون آفة تصيب رونق محصولنا، وهو قطاع الشباب، فتعطيش الأسواق وافتقارها للأيدي العاملة يزداد عدداً وظلماً وعدواناً، وأقرب ما وصل إليه الآن هو الكفاح من أجل التغيير، ما ثورات الربيع العربي إلا كنسيم الصباح الذي خرج يفتش عن نفسه من جوف الليل الغميق، من أجل عيش، وحرية، وعدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية، دون نتيجة حقيقية وواقع ملموس حتى الآن.
إن تشجيع الشباب على فتح أفق جديدة في عالم المال والعمال سيكسبهم ثقة في تحقيق الأمل المنشود؛ حيث المشروعات الصغيرة التي خلقت من أجلهم والحوالات والقروض البنكية التي ستلبي رجاءهم في القضاء على شبح البطالة ونكسة العطالة، وكذلك مشروع الحدود الدنيا والقصوى للأجور، الذي سيخلق نقلة نوعية من الثقة المتبادلة بين المواطن وأجهزة الدولة المختلفة، أما الدور الرقابي فهو تلك المعايير التي تقتضيها الحاجة لتثبيت دعائم التنقيح المركزي لسوق العمل، وضخ العمالة بها.
بالرغم من حيثيات الموضوع التي ألقت بنا على الربيع العربي ودورها في إحداث نوعية التغيير المرجو، فإنها لم تحقق أهدافها لصالح الطبقة العاملة والجماهير الكادحة التي كانت القوة الرئيسية لتلك الوثبات الثورية، والسبب واضح وضوح الشمس في كبد السماء، وهو تلك الانهزامات طويلة الأمد التي أصابت الحركات والائتلافات الثورية بشلل نصفي جعلت الحشود العمالية تستشعر بقلق من تحقيقها لغد مشرق.
وفي ظل تفشي ديكتاتورية البروليتاريا وتوغلها بداخل الأروقة النقابية وساحات المجتمع المدني تلتهم الأخضر واليابس، تأتي إلينا الأدبيات الإنكليزية لتعرّف هذه الفئة الاجتماعية بأنها تشكل "الغوغاء وعمال سكنة الصفائح الذين يتألفون من المتشردين والعناصر المتفسخة والصعاليك التي أصبحت جزءاً من المراكز الصناعية"، وتحتوي الأدبيات السياسية على أوصاف ودراسات لهذه الفئة الاجتماعية لما لها من تأثير خطير على المجتمعات التي تعيش الاحتقان السياسي والاجتماعي، أو تلك التي تمر بمنعطفات حادة أو تعيش تطورات سريعة في مختلف الميادين الإنتاجية والمعرفية.
تتركز الآن الآمال أكثر من ذلك في الاقتصاد الإسلامي، الذي يعتبره الكثيرون الأكبر تنظيماً، والأكثر تكيفاً والأقل تكلفاً، فمن بعد سقوط الماركسية في أوروبا الشرقية وقد تولد لدى الناس تحول في استنباط حلقة أخرى من التوافق..ليس توافقاً أيديولوجياً ممنهجاً، لكنه توافق عقائدي ومحتوى جوهري بالغ الفطنة، أو كما قال جاك أوستري: "إن طرق الإنماء الاقتصادي ليست محصورة في النظامَين الرأسمالي والاشتراكي، بل هناك اقتصاد ثالث راجح، وهو الاقتصاد الإسلامي!"، ليس عيباً في الاشتراكية أو كيداً في الرأسمالية، إنما جاء تفصيلاً وتفسيراً حقيقياً بأداء البنوك الإسلامية أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية بالعقد المنصرم؛ حيث أوضحت التقارير المالية العالمية أن البنوك الإسلامية هي من أقل بنوك العالم تأثراً بالأزمة المالية العالمية على الرغم من تأثرها بمشكلة نزوح رؤوس الأموال الأجنبية خارج البلاد، وكذلك فإن قطاع المصارف الإسلامية يتجه نحو تحقيق نمو قوي وربحية عالية، في الوقت الذي فاق فيه أداء المصارف الإسلامية أداء نظيرتها التقليدية منها في معظم الأسواق الرئيسة، التي تأثرت بالأزمة المالية تأثراً مباشراً وقوياً.
ورغم هذا وذاك لم تستفِد السوق العربية، والمصرية تحديداً من توصيات ثلاث:
الأولى: الدعوة إلى مزيد من تشجيع الاستثمارات الأجنبية، وثانيها ضرورة العمل بشكل جاد لتحسين المناخ الاستثماري لديها، وثالثها ضرورة أن يكون هناك حضور دولي على الصعيد الاقتصادي يتناسب مع ما تمتاز به من إمكانيات اقتصادية، وفيما تصبح مصادر التمويل التي كانت متوافرة خلال السنة المالية الحالية الموشكة على الانتهاء متعذرة أو متخبطة غير كافية، يصبح حال الطبقة فوق الوسطى على شفى حفرة من الانحدار تماماً، كما سبق أن انهارت الطبقات الدنيا والوسطى من مجتمعنا؛ بل من المرجح تحول هذا الصراع السياسي الاقتصادي المجتمعي إلى اجتثاث الحالة المصرية من جذورها في المنطقة، وضياع الهوية، وانقسام الرعية، وخسارة الحدود بالقيود الدولية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.