واللافت للنظر هو أن المستبدين وحكام النظم السلطوية، مهما تواطئت معهم حقائق القوة المتفلتة من كل قيمة أخلاقية وإنسانية وعلى الرغم من سطوتهم إزاء شعوبهم التي تلحق الممارسات القمعية والمظالم والانتهاكات إما بأغلبياتها أو ببعض قطاعاتها المؤثرة أو بمجموعات المعارضين المطالبين بالديمقراطية، يظلون دوما في احتياج لتجميل أفعالهم وتبريرها بمقولات خطابية وأدوات دعائية تتشابه من موسكو إلى القاهرة.
منذ أيام قليلة، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تليفزيونيا في الولايات المتحدة الأمريكية عبر حوار مطول بينه وبين المخضرم تشارلي روز. شرح بوتين – في صياغات عمومية كأولوية التعاون في أوروبا وضرورة مكافحة الإرهاب – موقف حكومته إزاء الأزمة الأوكرانية والوضع السوري محاولا تصوير روسيا كقوة استقرار إقليمي في أوروبا وفي الشرق الأوسط وكقوة سلم وأمن عالمي، ثم حمل بشدة على السياسات الأمريكية والأوروبية التي تتدخل في شئون الآخرين وتتجاهل خصوصياتهم وتعبث بسلمهم الأهلي وتدفع بهم إلى حافة هاوية تفتيت المجتمعات وانهيار الدول. غير أن شرح بوتين أحادي الاتجاه لم يصمد طويلا أمام "أسئلة التفاصيل" التي وجهها روز بشأن حقائق الدور الروسي في أوكرانيا والمصالح التي تدفعه إلى التحالف مع نظام الأسد في سوريا وكذلك بشأن ملفات الحقوق والحريات والمجتمع المدني في روسيا، وسرعان ما بدأت محاولات بوتين لتزييف بعض الوقائع وتجميل العديد من الأفعال والدفاع عن السياسات المتبعة كتعبير عن الديمقراطية الحقة.
نفى بوتين التدخل العسكري في أوكرانيا، وظف مقولات متنوعة لتجميل فصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وضمها إلى روسيا كنتيجة ديمقراطية لممارسة سكان القرم لحق تقرير المصير، استخدم قضايا التنوع العرقي في أوكرانيا لتبرير نزوع السكان ذوي الأصول الروسية في الشرق إلى الانفصال بعد أن تعرضوا لما وصفه بالاضطهاد الممنهج، أدان التغيرات السياسية التي شهدتها أوكرانيا في 2014 وانتهت إلى الإطاحة بالرئيس السابق للبلاد فيكتور يانوكوفيتش وأعتبرها "انقلابا على الشرعية الديمقراطية" ترفضه روسيا "لتعارضه مع قواعد القانون الدولي" وترفض الاعتراف بنتائجه. ولأن لروسيا قوات عسكرية تشارك في الصراع الدائر في أوكرانيا على نحو مباشر وغير مباشر، ولأن الضم الروسي للقرم سبق إجراء الاستفتاء بشأن تقرير المصير – والذي نظمته فيما بعد مجموعات مدعومة من الحكومة الروسية، ولأن حديث بوتين عن التنوع العرقي وكارثة الاضطهاد والتمييز تنقصه المصداقية وحكومته تضطهد السكان غير الروس في مناطق عديدة ببلاده مترامية الأطراف، ولأن الدبلوماسية الروسية لم تعنيها أبدا في تقييم موقفها من الإطاحة بحكام أو تغييرهم مسألة الشرعية الديمقراطية، ولأن الرئيس الروسي يعلم أن العالم (أو على الأقل من تتاح لهم حرية تداول المعلومات والحقائق) يعلم؛ لم يكن نفي بوتين المتكرر وإنكار العديد من الحقائق أو تزييفها سوى تعبير عن الاحتياج لتجميل الأفعال وتبريرها يتناقض بالكامل مع هالات البطولة وادعاءات القوة والثقة المطلقة التي يسعى باستمرار إلى إنتاجها وترويجها – وتجد هالات البطولة هذه صياغتها الرمزية في ذكورية اللقطات كثيفة التداول لبوتين ممارس الرياضة وعاري النصف الأعلى من الجسد والمستخدم بيسر لأنواع من الأسلحة والقريب دوما من استعراضات القوة العسكرية.
وتكرر ذات التناقض بشأن الدور الروسي في المأساة / المقتلة السورية وقضايا الحقوق والحريات في روسيا. نفى بوتين في حواره مع تشارلي روز مسؤولية بشار الأسد عن جنون القتل والدمار والتهجير والنزوح في سوريا، وأنكر ارتكابه جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية خلال السنوات الماضية، ثم مارس الاستعلاء على طلب الشعب السوري للحرية وللتخلص من نظام الأسد عبر اختزال الطلب هذا في تفتيت للمجتمع وللدولة وصنع مناطق آمنة للإجرام الإرهابي، وانتهى إلى التشديد على أن هدف روسيا الرئيسي هو الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة السورية وتجنيب شعبها المزيد من الويلات وعلى أن نظام الأسد هو الطرف الوحيد القادر على ذلك. على وقع التفاصيل الكثيرة التي واجهه بها روز، أتبع الرئيس الروسي النفي والإنكار ومحاولات الدفاع عن الحليف الديكتاتور مقولات تجميلية وتبريرية صريحة. ربط بعض هذه المقولات بين التحالف مع الأسد وبين ضرورات الحرب على الإرهاب ودرء خطر داعش وغيرها من العصابات الإرهابية على السلم والأمن العالميين – وعلى الأمن الداخلي في روسيا التي ينشط بعض مواطنيها في صفوف داعش وفقا لتقديرات روسية ومستقلة، وهنا مكون تجميل يقبله الغرب الديمقراطي عادة لأنه متورط به بصدد بلدان ومناطق أخرى. وبررت مقولات تالية للتدخل الروسي في سوريا ولتنسيق الدبلوماسية الروسية مع إيران وحزب الله حلفاء نظام الأسد بالإشارة إلى حتمية الاستعادة السريعة لشيء من "الاستقرار" في منطقة الشرق الأوسط لكي لا تتصاعد موجات اللجوء إلى أوروبا ولكي يتهدد أمن إسرائيل، وهنا أيضا مكونان للتجميل والتبرير يسهل توظيفهما إزاء الغرب الديمقراطي.
أما قضايا الحقوق والحريات في روسيا، فاستخدمها بوتين لادعاء انتسابه هو أيضا للفكرة الديمقراطية. حين سأله روز عن حرية التعبير عن الرأي وعن حريات التنظيم والعمل المدني والسياسي، كانت إجابته هي أن القيود غائبة والممارسات القمعية والانتهاكات يراها الغرب فقط وحريات الرأي والتنظيم مكفولة وضمانات صونها وحمايتها اليوم غير مسبوقة. غير ان أسئلة التفاصيل عن أوضاع الصحفيين والإعلاميين والعاملين في المجالات المدنية والسياسية دفعت بوتين مجددا إلى التجميل والتبرير، هذه المرة بالتشديد على أن 1) لروسيا ديمقراطيتها وصناديق انتخاباتها التي منحته ثقة الناس، وعلى أن 2) الشعب الروسي يختار ممثليه في السلطات التشريعية والتنفيذية بحرية كاملة، وعلى أن 3) بعض المشاركين في العمل المدني والسياسي ينقلون للغرب صورة "غير حقيقية" عن الأوضاع في روسيا ويستفيدون من ذلك. ولأن حقائق القمع والقيود والمظالم والانتهاكات الحادثة في روسيا موثقة، ولأن الرئيس الروسي يعلم بكل تأكيد أن عنصري النفي والإنكار لن يقنعا من يخاطب – بإيجاز، لن يصدقه أحد؛ صعد بوتين هنا من استخدام مقولات التجميل والتبرير ليجعل منها ادعاء بالانتساب للفكرة الديمقراطية التي تتشابه في تطبيقها روسيا مع البلدان الغربية والتي يقدرها هو شخصيا لكونها تدفع إلى "الابتكار والمبادرة الفردية" وتسهم في تجاوز أزمات المجتمعات والدول.
يظل المستبدون وحكام النظم السلطوية دوما في احتياج للتجميل مهما تواطئت معهم حقائق القوة واشتدت سطوت بشعوبهم، وتظل مقولاتهم التبريرية في الجوهر بالغة التشابه مهما اختلفت التفاصيل – بين موسكو والقاهرة.
نشر في الشروق المصرية، في 3/10/2015
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.