كانت أصوات الانفجارات تتناهى إلى سمعي من بعيد حيث تدور المعارك، وحيث كنّا قبل سنوات قليلة نجوب تلك المناطق بغاباتها العظيمة ونملأ فضاءها بأصواتنا اللاهية وبرائحة الشواء المختلطة مع رائحة العرق البلدي المثلّث الثقيل.
المدينة -وإن ادّعى البعض غير هذا- لا تعبأ بما يحصل هناك، إلّا أنّ أصوات سيارات الإسعاف تبلبلُ كلّ يومٍ عدّة مرّاتٍ هذا التبلّد وتكسر رتابة الضجيج.
أصوات الانفجارات تتناهى إلى سمعي وأنا -لسبب غير مفهوم- تأسرني فكرة أنّه لم يكن عندي في يومٍ من الأيام صديق اسمه "فريد"، وأتساءلُ بحزنٍ: كيف سأقضي بقيّة حياتي وليس لي مثل هذا الصديق؟ كدتُ أصاب بالاكتئاب حين انتبهتُ للأمر علماً أنّك لن تبذل جهداً يُذكر في هذه المدينة الحزينة للحصول على "صديق"؛ إذ يكفي أن تخرج إلى الشارع وتمسك بأيّ عابر سبيل من ياقته ثم تدفعه إلى أقرب مقهى قائلاً: "كُنْ صديقي"؛ فيكون. هكذا هي بلادي التي أعرفها؛ وهناك بلاد أخرى للآخرين فاتحةً أفواهَ مقابرها تضحك بفجورٍ وبعض سكّانها مثلها يضحكون، خطر في بالي هذا أثناء مروري قرب مقبرة المدينة الكبيرة وكدّت أدخلها باحثاً عن "فريد"، لكّني غيّرتُ رأيي وتابعت السير إذ ما الفائدة من فريد مقبور؟!
عدتُ بذاكرتي سنوات إلى الوراء باحثاً عن أيّ أثرٍ لأيّ "فريد"، إلى أن اهتديتُ إلى رفيقة من أيّام الطفولة تدعى "فريدة" كنّا نناديها ساخرين "فريدة الطرشة"، وكانت صمّاء بالفعل، لكنْ من يبحث هذه الأيام عن صديق أصم؟! أريد "فريد"، أريد من أمازحهُ وأقول له بعد غيابٍ طويل: اشتقت لكَ أيها الحقير، فيبتسم بسعادة ويفتح لي ذراعيه. آسف يا "فريدة الطرشة"، يا ذات الشّامة (الوحمة) على شكل سكين فوق النهد، فما يعتملُ في رأسي المجنون لا يليقُ بكِ، لا يليق بفستانك الزهري المزيّن بألف قلب وقلب.
أهيم في شوارع المدينة وأزقّتها باحثاً بين المارّة، علّ السماء تمطرُ فريداً، أو علّها تحمله عصفوراً يطير، كم كنتُ سأضحك مبتهجاً وأحضنه وأمسح عن رأسهِ بعضاً من سَقْطِ الغيم! يتعبني التجوال فأدخل حديقةً صغيرةً وأجلس على مقعد خشبي أخضر، ليس لأنني أحب هذا اللون على جماله، بل لأنّ المقاعد الأخرى كانت بلا لون، لم أنتبه للوهلة الأولى أنّ شاباً وفتاةً يجلسان في الزاوية البعيدة جنباً إلى جنب، ولم أنتبه أنّ الفتاة تلبس فستاناً وتداعب بأصابعها جديلة كستنائية تستريحُ على كتفها وتتدلى فوق صدرها حتّى الخصر. قلت: من حسن الطالع في هذه الأيّام أن يرى المرءُ فتاةً تلبس فستاناً وتربط جديلةً. ولكن، ماذا لو أن هذا الفستان أقصر بشبر؛ هل كان سيخرب الكون! عدتُ بعد استراحة قصيرة لأجوب الطرقات من جديد تاركاً العاشقين لقبلاتهما وأصوات الانفجارات تتناهى إلى سمعي بعيدة بعيدة كأنّها تهمس لي! وعلى الجدران حيث نظرت كنت أرى النعوات المنتشرة كالفطر وكانت عيون أصحابها تتابعني كعينيّ "الموناليزا" تلك التي شغلت النّاس بنظرتها وابتسامتها لعقود، فانظر يا "دافنشي" إلى هذه العيون!
قادتني خطواتي التائهة أخيراً إلى شاطئ البحر، ووجدتُني أقف على صخرةٍ واطئةٍ والموج يداعب قدميّ؛ تلوّنه أشعة الشمس التي أشرقتْ لطيفة من خلف الجبال ناثرةً غبار الفضّة فوق امتداد البحر. وكان صوت الموج يهمس أيضاً ويطغى على ذلك الهمس البعيد. سألت نفسي بعد شرود: هل من الممكن أن يكون للسمكة اسم؟ ماذا لو كان هناك سمكة اسمها "فريد" هل كنت سأصطادها وأتناولها على الغداء مع جاط مجدّرة وصحن فتوش، أم كنتُ سأصادقها ونقضي معاً بعض الوقت؟ ثم قلت: ماذا لو كنتُ أنا السمكة وكان لي اسم؟ ماذا سيكون اسمي؟ وعندما لم أجد اسماً يقنعني عدلت عن الأمر وتخيلت نفسي سمكةً ذهبيةً بلا اسم.
كنتُ ألاحق تهويماتي الغريبة غافلاً عمّا حولي حين سمعتُ طرطشة ماءٍ قربي؛ فنظرتُ حولي لأجد طفلاً يعوم قرب الصخر. ابتسمتُ، فابتسم وسألني بلطف: هل تجيد العوم؟ قلت: لأ. قال: لماذا؟ قلت: لم يعلّمني أحد. قال: أعلّمك أنا. قلت لنفسي: لِمَ لا؟ وماذا لو علّمني طفلٌ صغير ما لا أعرف. بدأتُ بخلع ثيابي ثم اقتربت بهدوء من الماء فأمسكني من يدي وساعدني على النزول ثم سألني عن اسمي فذكرتُ له اسمي وسألته بدوري عن اسمه فقال: "فريد". ارتبكتُ؛ وشرقتُ من ماء البحر، فضحك قائلاً: لا تخف يا عم، هذا يحصل دائماً في أول درس، سألته بعد أن استعدتُ هدوئي وأنا غير مصدّقٍ أنني عثرت أخيراً على "فريدي" الذي كنت أبحث عنه: من أين أنت يا صغيري؟ فهمس: من هناك، وأشار إلى الشمس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.