في بداية هذا الربيع حضرتُ مؤتمراً طبياً لأمراض القلب أقامه مستشفى إينوفا لأمراض القلب والأوعية في شمال فرجينيا.
لا يهمني هنا الكلام عن آخر المكتشفات الطبية في عالم القلب التي تم عرضها خلال المؤتمر، لكن الذي يهمني هو الفقرة الهامة التي أصبحت منذ سنوات روتيناً تقوم به المشافي الكبرى في منطقة واشنطن، وهي استضافة عَلَم من أعلام السياسة الأميركية ليحدث الأطباء عن تاريخه السياسي في خدمة البلاد والأمة.
فقد حضرتُ خلال الأعوام التي خلت هنا لقاءً مع رودي جولياني، عمدة مدينة نيويورك إبّان أحداث سبتمبر/أيلول المأساوية، ولقاءً آخر في العام الذي تلاه مع جورج بوش (الابن) تحدث فيه عن أسرار السياسة خلال فترة حكمه وما بعدها، مروراً بأحداث الربيع العربي، لكن اللقاء الأخير هذا العام كان أميزها، فقد كان الضيف الجنرال كولن باول مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس ريغان ورئيس هيئة الأركان في عهد جورج بوش (الأب) وبيل كلينتون، ثم أول وزير خارجية أسود في تاريخ الولايات المتحدة في عهد جورج بوش (الابن).
في هذا اللقاء تكلم باول عن تاريخه في محطات، ثم عرج على كتابه الأخير الذي حوى دروساً من الحياة والقيادة.
وكان مما رواه للحضور تفاصيل الحادث الذي حدث في بداية عهد الرئيس بوش (الابن) يوم 1 أبريل/نيسان عام 2001 عندما كان باول وزيراً للخارجية، حين حصل تصادم طائرتين؛ الأولى طائرة تجسس أميركية عالية التقنية، والثانية طائرة حربية صينية اعترضت الطائرة الأميركية بعد دخولها بالخطأ للأجواء الصينية وتجاهلها أمر الخروج من تلك الأجواء، فتم اعتراضها من قِبل الطيار وانغ واي، فتحطمت الطائرة الصينية وقُتل طيارها، فيما اضطرت طائرة التجسس الأميركية للهبوط الاضطراري في جزيرة هانين الصينية، وتم احتجاز طاقمها المؤلف من أربعة وعشرين من ضباط وجنود القوة الجوية الأميركية الذين كانوا يعملون على متنها.
مباشرة قام طاقم الطائرة بتفعيل أجهزة إتلافها منعاً من حصول الصينيين على أي معلومات عنها، فيما قامت الصين بالتحفظ عليها وقيل إنهم استطاعوا منع عملية الإتلاف قبل حدوثها ثم قاموا بجرد الطائرة عن بكرة أبيها.
كان من نتائج هذا الحادث ومقتل الطيار الصيني أن نشبت أزمة دبلوماسية كبيرة بين العملاقين، فقد طالبت الصين أميركا بالاعتذار عن الحادث، فرفضت الأخيرة بحجة أنهم لم يرتكبوا أي خطأ يستدعي الاعتذار، وتفاقم الأمر، لكن كولن باول استطاع مع طاقمه أن يجدوا ما تخيلوه حلاً وسطاً، فقام بالاتصال بوزير الخارجية الصيني، وقال له: "لن نقوم بالاعتذار عن الحادث، لكننا نأسف لحدوثه".
طلب وزير الخارجية الصيني مهلة لمناقشة القضية مع قيادة بلاده، ثم عاود الاتصال بكولن باول وأخبره برفض القيادة الصينية الشديد مجرد الأسف، بل يجب الاعتذار.
هنا تفاقم الوضع مرة أخرى وكاد ينفجر، لكن طاقم الدبلوماسية الأميركية وجد حلاً آخر؛ فطلب باول الكلام مع نظيره الصيني مرة أخرى، لكنه لم يجده، فترك له رقم هاتفه المنزلي وطلب من سكرتيره أن يتصل به الوزير الصيني في أي وقت يشاء ليلاً أو نهاراً.
وفعلاً اتصل الوزير على منزل الجنرال باول فردّت زوجته على الهاتف، وتكلم الوزير مع زوجة باول لدقائق كلاماً ودياً بإنجليزية ركيكة قبل أن تقوم زوجته بتمرير الهاتف إلى زوجها ليتكلم مع الوزير الصيني.
بادر الوزير الصيني بسؤال باول: هاه، هل وجدتم حلاً للمسألة؟ فأجابه كولن باول: "لن نقوم بالاعتذار عن الحادث ولكننا نأسف (جداً) لحدوثه"، وذلك بإضافة كلمة جداً على الأسف السابق.
بعد ساعات اتصل الوزير الصيني وأبلغ نظيره الأميركي أن القيادة الصينية قبلت هذا التأسف بفرح شديد، وفي اليوم التالي قامت وسائل الإعلام الصينية الرسمية بنشر الخبر بأن أميركا اعتذرت جداً عن الحادث، وبذلك استطاعت الدولتان أن تحفظا ماء وجهيهما أمام شعبيهما.
وطُويت بذلك أكبر أزمة بين البلدين كادت تؤدي لعواقب لا تحمد عقباها.
في يوم 27 يونيو/حزيران 2016 كرَّرَ التاريخ نفسه.