لكَم نردد بأن التاريخ كثيراً ما يعيد نفسه، فلماذا إذاً لا نرى التاريخ يحنو علينا ويعيد لنا ذلك العهد الجميل عندما كانت مصر فرعونية أو مصر محمد علي، دولة مستقلة ومتفوقة ومتعمدة على ذاتها؟ هذا ما دعا كثيراً من الكُتاب إلى التأمل في هذه الحالة وكيف تصل مصر إلى مكانتها اللائقة بها.
بالرجوع إلى مصطلحات المنطق الأرسطي نجد الحديث عن الفرق بين الفعل والقوة (مثلاً نواة النخلة بداخلها نخلة بالقوة وليست بالفعل فإذا أثمرت أصبحت نخلة بالفعل) وبالاستشهاد بذلك المصطلح نستنتج أن كل إمكانيات الدول العظمى توجد بمصر، ولكن بالقوة وليست بالفعل، للأسف الشديد، والسؤال الآن متى يمكن أن تتحقق المعجزة وتصبح مصر دولة عظمى بالفعل؟!
مبدئياً تعلمنا من التاريخ أنه لا يوجد مستحيل أمام إرادة الشعوب، ولكن إن تم تفعيل تلك الإرادة في خطة موجهة ومتابعتها بحسم، والآن لنكون واقعيين ولنتعرف أولاً على ما هي مقومات الدولة العظمى، ثانياً ما هي مقومات مصر الحالية المؤهلة لتكون دولة عظمى؟ ثالثاً وما هي أهم معوقاتها للنهوض لتكون دولة عظمى؟ رابعاً وأخيراً ما هى الخطة أو المنهجية المُثلى لتحقيق ذلك الهدف؟
أولاً: يمكن تعريف الدولة العظمى باختصار بأنها الدولة التي تمتلك من المقومات الاقتصادية والعسكرية والثقافية والعلمية والدبلوماسية والموقع الجغرافي والموارد المادية والبشرية ما يُمكنها من أن تفرض رأيها على الأمم والدول الأصغر منها في تلك المقومات.
ثانياً: نأتي الآن إلى الإجابة التالية عن تساؤل ما هي مقومات مصر المؤهلة فعلياً لتكون دولة عظمى؟ يمكن بالدراسة المستفيضة للإجابة عن هذا التساؤل من خلال كتاب شخصية مصر للمؤرخ العظيم الأستاذ جمال حمدان، ولكن للإجابة المختصرة على قدر المقال نجد أن مقومات مصر من حيث التاريخ والجغرافيا والموارد البشرية والطبيعية عظيمة جداً وثرية للغاية، فهى تمتلك بحرين وجزيرتَين وتتوسط مركز العالم وتربط بين إفريقيا وآسيا وأوربا ولها عمق استراتيجي في كنز العالم حالياً (إفريقيا) يُمَكِّنُها من بسط نفوذها ومنتجاتها المادية والثقافية إلى تلك الدول، كذلك بها أطول أنهار العالم ومجموعة بحيرات عذبة ومالحة وسلسلة جبال البحر الأحمر وطقس معتدل طوال العام، وأرض مستوية صالحة للزراعة وأرض صحراوية للأنشطة الصناعية والدفاعية وإنتاج الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مع موارد الطاقة المتعددة كالنفط والغاز والرياح والحرارة الجوفية واليورانيوم والثوريوم والكتلة الحيوية.. إلخ وخامات صناعية كالفوسفات والرخام والكربونات والرمال البيضاء والرماء السوداء (وهي عبارة عن ثروة مجمعة من المعادن النفيسة والمشعة)، إضافة إلى مناجم الذهب، وبالنسبة إلى الموارد البشرية فلديها نسبة شباب تتعدى الخمسين مليوناً ومجموعة كوادر وخبراء في كافة المجالات في الداخل ومجموعة من أفضل الكوادر والقيادات بالخارج، وبها قاعدة صلبة من خبرة عسكرية مكتسبة من سلسلة حروب متعددة مرت بها، مكنتها من تكوين جيش إقليمي قوي يصل إلى الترتيب العاشر عالمياً.
ثالثاً: أما بالنسبة إلى أهم العوائق فهي ثلاث عوائق أساسية: (الفساد، سوء الإدارة، عدم استقلال السيادة كاملة) ويمكن إرجاع كل تلك العوائق السابقة إلى عنصر واحد وهو مشكلة الثقافة، بمعنى وجود خلفية ثقافية سيئة تمثل عبئاً ثقيلاً جداً على الشعب تمنعه من النهوض من كبوته والنهوض ببلده، وكمثال لتلك الثقافة: الفهلوة وإلقاء التبعات على القدر وتسمية الأشياء بغير مسمياتها (كالرشوة قهوة أو حلاوة والمجتهد في العمل بالحريص على الدنيا، والغش التجاري شطارة وغير ذلك)، وعدم ضبط الوقت، وغير ذلك من الجراثيم الاجتماعية (ناتجة عن الاستعمار والتعليم السيئ والإعلام الفاسد) التي تصحبه في كل أعماله ومناصبه وينتج عنها كل ما آلت إليه مصر من كوارث.
والآن ننتقل إلى العنصر الأخير والأهم من المقال ألا وهو إجابة العنصر الأخير:
رابعاً: كيف نحقق ذلك الحلم في وصول مصر إلى مكانتها التي تستحقها لمواردها الهائلة التي سبق ذكرها؟
والإجابة قولاً واحداً يكون ذلك بالتغلب على العائق البغيض والأهم الذي سبق ذكره ألا وهو التخلص من تركة الثقافة البالية!! نعم ولكن أليس ذلك أمراً سهلاً وبسيطاً؟!
للأسف الشديد فإن من أصعب الأعمال الآن على جدول الحكومات هو تغيير ثقافة المجتمعات خاصة الآن في زمن السماء المفتوحة وثورة الاتصال الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن المقترح الناجع لتحقيق ذلك التوجيه الثقافى يكون باعتماد الثلاثة عناصر الآتية:
أولاً: على المدى الطويل (بالتعليم الممتاز) ثانياً: على المدى المتوسط بالمحاضرات والندوات الشعبية المتعددة. ثالثاً: على المدى السريع بالإعلام الهادف، ويجب عمل تلك الإجراءات معا بحنكة وخطة توجيه ثقافي مكثف جداً وبإبداع مكثف للغاية (استلهام روح غوبلز ولكن كتوجيه إيجابي وبصورة أكثر إبداعاً تتناسب مع العصر الحالي)، تلك الثقافة توجه بالعناصر الآتية الواجب غرسها كعادات في الشعب المصري (ضبط الوقت، القراءة، المثابرة، ريادة الأعمال، مهارة الإتقان، الانتماء، الحس الراقي للأمن القومي، الرياضة) وببث عناصر تلك الثقافة في جميع مكونات الإعلام والتعليم والمحاضرات وبعمل ذلك الغزو الثقافي الهادف سيتم إحداث التغيير الثقافي المطلوب في وقت قريب وستنشأ قيادات ممتازة للغاية وراقية جداً، وستتطور باستمرار لتتطور قيادة مصر وقوتها، ويجب أثناء ذلك أن لا ننسى إنهاك الشباب في العمل المتناسب مع كل شاب وطبيعته الشخصية والممزوج بتلك الثقافة الموجهة حتى لا يضيع مجهود التوجيه الثقافي هباء.
من ناحية أخرى، يجب توجيه طيف الشعب إلى فكرة واحدة (مصر العظمى)؛ لأن الجهود حتى وإن كانت جيدة ولكنها مشتتة، فإنها لا تثمر (كشعاع الليزر إن تبعثر فقد قوته)، وما سبق خطوط عامة، ولكن ومع شيء من التفصيل في نفس السياق يمكن تحقيق الهدف المذكور (مصر العظمى) في وقت قصير للغاية، والآن بعد وصول مصر إلى مصاف الدول العظمى، هل سيكون هدفها إذلال الدول الأقل حضارة أم ستكون أجندتها التي تمليها عليها مكانتها نُصرة الدول الضعيفة لتخليصها مما عانت منه مصر والكثير من الدول من انتقاص سيادتها ونهب ثرواتها؟
أرجو ان تنتهج مصر نهج الحضارة الجديدة المؤسسة على نصرة العدل والحق وإعلاء قيمة الإنسان والعقل.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.