قبل عام تقريباً، نزل في السينما فيلم الأنيميشن "بلال"، وقتها اصطحبت الأسرة كاملةً لمشاهدته، كانت تجربة فريدة من نوعها، استمتعت فيها مع اﻷهل والأبناء، خالطها لحظات من الشجون والانغماس في حقبة تاريخية لم نكن نظن أننا سنشاهدها رأي العين بهذا اﻹبداع..
أفكار كثيرة اختلطت وتزاحمت برأسي في أثناء العرض وبعده.. حدثتني نفسي بأن أُخرج ورقةً وقلماً ﻷسطر بعضها، ولكن كبحتُ جماحها؛ ﻷستمتع بالرحلة الزمنية الثرية..
أن تشعل شمعة..
يحاكم البعض فيلم "بلال" من منطلقات قناعاته أو التنشئة التي نشأ عليها، وكثير منها يقوم على خوض معارك وهمية مع الآخر، أو محاولة التمايز والاستعلاء؛ لكوننا أصحاب الدين الحق وغيرنا على باطل!
وتغيب هنا القيم العليا العالمية التي يتشابه فيها البشر، مثل قيمة نبذ التفرقة العنصرية أو التفرقة على أساس العرق واللون والمعتقد كما يحاكيها الفيلم، ولست أبالغ إن قلت إن مثل هذه الممارسات البشعة بائنة في سلوكياتنا وإن حاولنا التنصل منها بقص الحكايا واستدعاء النصوص المقدسة التي تحاربها.
ولا شيء يعيب أن تقدِّم بضاعتك بشكل مغرٍ للآخر أو بلغة يفهمها أو يريد التخاطب بها، ألم يقبل الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- أن يكتب اسمه في صلح الحديبية محمد بن عبد الله دون "رسول الله"!
فيما سبق، كنت أتابع شيئاً من الجدال المحتدم حول تمثيل دور الصحابة، واليوم بعد مشاهدة لمحات من حياة بعضهم بِتُّ أرى ضرورة تجسيدهم على أرض الواقع بشخصيات مرسومة مصمَّمة؛ لتلافي سلبية تمثيلهم من قِبل ممثلين يمكن أن يظهروا بصورة غير لائقة فيما بعد.
هذا التجسيد بات ضرورةً اليوم لعرض نماذج حية ﻷطفالنا المُتْخمين بنماذج حضارية استهلاكية غربية منزوعة القيم، مثل: السوبر مان، والباتمان، والسبايدر مان، وسنووايت، وروبن هود، وتوم وجيري، وسبانج بوب، وهاري بوتر.. والقائمة تطول ولا تنتهي.
رسم الشخصيات تم بالاستعانة بـ17 مرجعاً تاريخياً، وفريق عمل فيه أكاديميون تابعَ التفاصيل، ورسامون جنائيون مختصون.
لم يكن فيلم "بلال" كأي فيلم رأيته من قبل، كان أقرب إلى خارطة كنز مجردة احتوت على إشارات ورموز تحتاج أن تُجمع معاً للوصول إلى الجوهرة الثمينة.
احتوت القصة على العديد من التلميحات والكلمات والجمل القوية، ربما اعتمد الفيلم على خطة البحث التي ستجري بعده، وهذه سمة معتاد عليها لدى المتابع اﻷجنبي، خصوصاً مع وجود محركات بحث تفصل بينها وبين الحصول على المعرفة كبسةُ زر.
صحيح أن الفيلم يدور حول الشخصية المحورية وهي بلال، ولكن ثمة شخصيات أخرى كانت هامة؛ مثل: أبو بكر الصديق، وحمزة بن عبد المطلب، وصهيب الرومي، وسعد بن أبي وقاص رضوان الله عليهم، إضافة إلى صفوان بن أمية. وكلها -ولا شك- غنيّة في ثقلها التاريخي.
ولو ركزنا على منظومة اﻷفكار التي احتواها الفيلم فسنلاحظ ما هو مباشر، وما هو مستتر يحتاج بحثاً وتحرّياً، فالفكرة الرئيسية كانت في حرية اﻹنسان التي تمثل جوهر الوجود الإنساني، ونبذ التفرقة العنصرية، وكذا حريته من قيوده العقلية التي تقيده وتحدّه عن الانطلاق؛ قيود المال، قيود السلطة، قيود اﻷوثان، قيود النظرة الدونية للنفس.
جاء الفيلم عبر مَشاهده اﻵسرة ليرسل لنا رسالة بأن الوقت حان لكسر القيد وتجريد عقولنا منه.
والفكرة المستترة كانت فكرة وحدانية الله سبحانه وإفراده بالعبودية، وهي فكرة جوهرية سيصل إليها مَن أمسكَ خارطة الكنز وبحث عنها.
في عالمنا العربي الذي يغصّ حتى الثمالة بالرسالة الفجة الفاقعة التي تقتحم علينا الشاشة وتحاول أن تجبرنا على ابتلاعها دون مقدمات أو مقبلات- سيُفاجأ المشاهِد بأن هناك ما يسمى القوة الناعمة، والرسالة الحريرية اﻷنعم التي لا تقتلع عينيك من مكانهما؛ بل تلامسهما كنسمة هواء رقيقة هادئة، وهذه الرسالة تصل إلى المستقبل حتى دون أن يشعر!
ولعل هذا من أبرز التحديات التي واجهها منتج الفيلم، فكيف مع كل هذه اﻷزمات المُحْكمة المستشرية يمكن صناعة رسالة فنية مُتْقنة تصل إلى أكبر شريحة إنسانية دون أن تُشعرهم بوخز الفروقات الدينية والسياسية القاتمة والجاثمة على المشهد الواقعي؟
الفيلم خطوة صغيرة في بحر الفن السينمائي، ولكنها خطوة جبارة في طريق طويل، تم وضع القدم اﻷولى عليه باتجاه صحيح.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.