يهل هلال شهر رمضان، الشهر الكريم الذي تتنزل فيه الرحمات والبركات والخيرات، ويعود على شعوب البلاد العربية والإسلامية عاماً بعد عام، فيستعد الأغنياء والفقراء لاستقباله والاحتفاء به، وإقامة شعائره المتعددة والمتنوعة من بلد إلى آ خر، تتزين البيوت والأحياء، وتضيء الشوارع والساحات والفوانيس، يجهز المسحراتي نفسه لإيقاظ الناس كل ليلة، تُتلى آيات القرآن الكريم في البيوت، تزدحم المساجد بالمصلين؛ ليشهدوا صلوات الجماعة ويقومون الليل ويصلون التراويح.
تمتلئ الموائد بأنواع وأشكال الأطعمة والعصائر، وتقام الولائم والسهرات الرمضانية، كما يصفها البعض، وإلى آخر ما يقوم به المسلمون من مباهج الشهر الكريم الذي يتحول عند الكثير إلى عادات وتقاليد وصور فولكلورية، وتُنسى المعاني السامية لهذا الشهر العظيم.
يطرح الأسئلة على نفسه.. تتداعى الصور وتتزاحم الأفكار في مخيلته بين ماضٍ وذكريات قد خلتْ بحلوها ومُرها، وبين حاضر وواقع مرير، ألمتْ به وبمخيمات كانت لقاطنيها وطناً مؤقتاً في بلد كان مضرب الأمثال بالأمن والأمان والاستقرار.
ها هي الصور لا تغادر مخيلته، وتبقى الذكريات حية في وجدانه، وها هو يستعيد لحظات خروج الآباء والأمهات من أرضهم وديارهم، طالما سمع الكثير الكثير عنها من والديه ومن كبار السن عن ذاك الخروج الذي وُصف بالنكبة.
التاريخ يعيد نفسه، ما أشبه اليوم بالأمس!.. خروج قسري ونكبات جديدة إلى دول وأقطار قريبة وبعيدة، غربة، فرقة، وغرق، ومصير مجهول.
يتذكر تلك البيوت التي كانت تجمع الأهل والأقارب والعائلات مع بعضها البعض، يتذكر عندما كانوا ينتظرون قدوم شهر رمضان ليلتقي أفراد العائلة على مائدة الإفطار.
صوت المسحراتي باقٍ في الوجدان، وكذلك صوت الضرب على الطبلة، ونداؤه على الجيران كل باسمه.
"يا نايم وحّد الدايم.. يا عباد الله.. وحّدوا الله"، كلمات لا يمكن نسيانها، ترحل روحه حيث وُلد ونشأ هناك، تتجول أفكاره في شوارع المخيم، يستعيد معها كل لحظة، الأسواق، الأحياء، الناس، الأهل، الجيران الذين كانوا يتبادلون صحون الطعام قبل موعد الإفطار، ماذا يتذكر؟ صوت المؤذن، أم إمام المسجد، وتأمين المصلين على دعائه، يشعر بضيق في صدره، ورغبة شديدة في البكاء، يُحدث نفسه قائلاً: ماذا عن اللاجئين؟ وكيف سيقضون أيام وليالي شهر رمضان؟ وهل من يتفكر بهم، ويشعر بمعاناتهم؟ كيف كنا، وأين أصبحنا؟
الآن يعرف الإنسان معنى كلمات (وطن.. مخيم.. أمان.. استقرار.. أهل.. أقارب.. جيران.. أصحاب)، وكذلك معنى السكن في بيت لا يطالبه أحد بإيجاره نهاية كل شهر، ويعرف قيمة وجود الأهل والأصدقاء والجيران الذين فرّقتهم الأحداث الدموية والصراعات، وباتوا يتقلبون بين المحن والنكبات في نزوح داخلي ولجوء إلى بلدان وأقطار لم تكن بالحسبان، (قهر، فقر، تشرد، ظلم، قتل، اعتقال، فساد، نزوح، لجوء، تلاوين وأشكال للمعاناة) ضحيتها البسطاء والفقراء الذين لا ناقة لهم ولا جمل فيما آلت إليه الأحداث، التي كلما ذكرت تفاصيلها دفعت النفس إلى التقزز من مجتمع يبتذل داخله الإنسان وتضيع فيه كرامته.
ثم يعود ويُصبر نفسه بقدوم شهر رمضان ليُبلسم الجراح، ويغسل القبح عن وجه الحياة، وتسمو الأفئدة والأرواح طهراً على أصوات التسابيح، وتلاوة القرآن.
وهكذا تمضي الأيام وتصير ذكريات، كي تمضي الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.