أشكال النفاق الاجتماعي: البهتان نموذجاً

الشاهد هنا هو مدى تعظيم الله للشهادة، ومدى خطورة شهادة الزور، وكيف أن الله قدّر لها حادثة كبيرة وأنزل فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة؛ لتبيان أن بَهْتَ الناس واتهامهم جزافاً داهية دهماء ما لها من واهية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/06/26 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/06/26 الساعة 03:53 بتوقيت غرينتش

"يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".

ذكر كثيرٌ من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عُقْبَة، حين بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني المُطّلق. فخافهم على نفسه. فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا رسول الله، إن الحارث منعني من الزكاة وأراد قتلي"، فكادت أن تكون حرباً لولا أن الله ستر.

الشاهد هنا هو مدى تعظيم الله للشهادة، ومدى خطورة شهادة الزور، وكيف أن الله قدّر لها حادثة كبيرة وأنزل فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة؛ لتبيان أن بَهْتَ الناس واتهامهم جزافاً داهية دهماء ما لها من واهية.

من ثَم نأتي إلى واقعنا الحديث، فنكاد نُصعق من كمِّ الإشاعات المُروّجة على الناس بغير حق، التي تَطوي في بعض الأحيان المسافات فتصل إلى بلاد ما وراء النهر؛ لِيتمّ تطْعيمُها بمعلومات إضافية من نسج الخيال تُناسب المقال والظروف؛ لِيجد المرء نفسه في مواجهة وَابل من التُّهم والانتقادات التي لم تخطر له على بال، وما أنزل الله بها من سلطان.

والبهتان لغة: من بَهَتَ الرجلَ، أي: قال عليه ما لم يفعله، كما عند ابن منظور في لسان العرب، واصطلاحاً: قال القرطبي: البهتان هو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء، تَأمّل معي قوله "أخاك"، و"ذنب هو منه بريء".

فيا عجباً كيف يدَّعي الأُخوّة من يرمي الناس بما هم منه براء، وواأسفا على أمة بلغت من الانقسام والتدابر ما بلغت حتى صار النفاق الاجتماعي دينها ودَيْدَنها.

والبهتان بوصفه شكلاً من أشكال النفاق الاجتماعي له أسباب ودوافع، يمكن تلخيص أهمِّها في أمرين:

1- ضُعف النقد الذاتي

بحيث إن الباهِتَ يكون إما حاقداً على من يقْذِفُ بسبب خلاف وخصومة بينهما، أو يكونَ شخصاً ناقلاً للخبر متعاطفاً مع المدعي الباهت، وفي كِلَا الحالين فالباهت والناقل يَعْلمان أن الخبر مكذوب، وأن المدّعى عليه بريء، غير أن الإنسان كما يُعَرّفه علماء الاجتماع نَرْجسيّ بطبعه، يأْكُل حُبّ الذات قلبه، فيُعْميه عن رؤية عيوبه وعن اتهام نفسه، فهو يعامل أخطاءه بالتبرير، ويعامل زلّات غيره بالتّتبّع والإحصاء.

ومن هذا المنطلق نرى الناس لا يتورّعون عن بَهْت غيرهم والطعن فيهم بما فعلوا وما لم يفعلوا، مقابل الذّب عن صورهم الشخصية وتلميعها.

2- التّخلف الأخلاقي

وهي ظاهرة نجدها متفشّية في المجتمعات النامية التي تسودها البطالة المعنوية والفراغ الفكري، بحيث أنك تجد الناس متلهّفين لِهَتْك أعراض غيرهم بمجرد سماع أخبار عنهم قد يكون لا أساس لها من الصّحة، وذلك فقط لإشباع فضولهم ومَلْء فراغاتهم الفكرية والعاطفية، في حين تجد الناس في أوروبا وكندا لا يكادون يجدون الوقت الكافي للتزاور والسؤال عن بعضهم البعض، فضلاً عن التدابر واتباع العورات، وذلك راجع إلى تركيز الناس في هذه الدول على مشاغلهم، وكذا إلى احترام خصوصيات غيرهم.

وبعد.. فإني أُحبّ أن أختم مقالي بكلمة قالها أَحْلَمُ العرب في الجاهلية؛ عَلّنا نستبدل بها جاهلِيَّتنا الحديثة، فالأولى والله أرحم، هو قيس بن عاصم المِنْقَري، وكانوا قد أخبروه أن ابن أخيه قتل ابنه في سباق خيول، فما كان من عاصم إلا أن أعرض عنهم وأنشد يقول: "إني امرءٌ لا شائِنٌ نَسَبي بعَيْب يُدنِّسه من مِنْقَرِ بِبيت مَكْرُمَة والغُصْنُ يَنْبُت حوله الغُصُنُ، خطباء حين يقول قائلهم بِيضُ الوجوه أَعِفّة لُسُنُ، لا يَفْطنون لِعَيْب جارهم وهم بِحِفْظ جِواره فُطُنُ".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد