“النفوس الميتة” ثقب في ضمير الإنسانية!

أما الشخصية الرابعة فهي "سوباكيفيتش" الرجل الشكاك بكل شيء، الذي يرى في الآخرين مجرد لصوص يريدون نهب ماله، ولا يجد في الناس إلا السوء، والخير عندهم معدوم، بهذه العقلية يتعامل "سوباكيفيتش" مع المجتمع.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/04 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/04 الساعة 03:30 بتوقيت غرينتش

إنها النفوس التي تقيم حياتها على موت الآخرين، وتراكم ثرواتها على حسابهم، انقضى على ظهور هذه الرواية "نفوس ميتة" أكثر من قرن ونصف القرن، ومع ذلك فإننا ما زلنا نقرأ الحاضر على ضوئها، ونعي أن النظام الذي يقيم حياته على موت الآخرين ولا يجد ما يعيبه في ذلك هو نظام "النفوس الميتة"، وندرك أن كل نظام تتفشى فيه "الأرواح الميتة" مآله السقوط؛ لأن الحياة تحتفي بالحياة وتقدسها، ولأن العين بالعين، والموت بالموت، هذه سنة الحياة وقانونها.

بطل الرواية محتال، يقطع مسافات طويلة ليشتري "الأرواح الميتة"، وهي أرواح عبيد ماتوا بالفعل لكن يتعين على سادتهم أن يستمروا في دفع الضرائب عنهم حتى تتأكد وفاتهم رسمياً لدى الدولة أثناء مراجعة تتم كل عشر سنوات، يعرض المحتال على ملاك العبيد الموتى أن يقوم بدفع تلك الضريبة واستعداده لتقديم قليل من المال مقابل شهادات تثبت ملكيته لأولئك العبيد الموتى، ويوافق الملاك بسرعة على بيع شيء لا وجود له مقابل التخلص من الضريبة، ولكن لماذا يا ترى؟ هذا السؤال هو محور الرواية.

يتمثل مخطط تشيتشيكوف بعدما اشترى تلك الشهادات وأصبح مالكاً رسمياً لآلاف النفوس في طلب قرض من الحكومة برهن أقنانه وليشتري أرضاً ويعيش في نعيم بقية حياته، ويحظى نتيجة لتلك الثروة الوهمية بمكانة مرموقة بين الإقطاعيين ومن ثم يصبح مؤهلاً للزواج من امرأة ثرية..

أولى هذه الشخصيات الإقطاعية التي تناولها غوغول كان "مانيلوف" الذي لم يكن يعلم شيئاً عن الأقنان الذين يعملون عنده، مجرد شخص أجوف فارغ لا يعرف شيئاً عن فلاحيه، وما الوظيفة التي يشغلها إلا الحصول على أتعاب الفلاحين الذي يكدون في عملهم، وهو مجرد شخص يشغل -شكلاً- لقب الإقطاعي السيد، الذي منحه القانون الحق في ملكية البشر واستعبادهم، وكأن الكاتب من خلال هذه الشخصية التافهة الغبية يريد أن يعري للروس حقيقة النظام الذي يعيشون فيه، فهل من حق "مانيلوف" أن يعيش في رفاهية مطلقة ودون أي عمل؟

والشخصية الثانية تدعى "كوروبوتشكا" أرملة موظف من الدرجة التاسعة، تعيش في حالة من التخلف والقذارة، ومهمتها في الحياة جمع المال فقط، فلا يهمها الترفه ورغد العيش والبحبحة في الحياة، فهي تعيش بخوف وقلق وعدم القناعة وكأن الدنيا ستنقلب فجأة، من هنا نجدها بالصورة التي قدمها لنا غوغول؟


والشخصية الثالثة التي تمثل الطبقة الإقطاعية هي "نوزدريف" السكير، المقامر، الكاذب، العنيف مع الآخرين، شخصية غير سوية بتاتاً، ولا يمكن التعامل معها أبداً، لما فيها من سلبيات، فلا نجد في شخصية "نوزدريف" صفة حميدة..

أما الشخصية الرابعة فهي "سوباكيفيتش" الرجل الشكاك بكل شيء، الذي يرى في الآخرين مجرد لصوص يريدون نهب ماله، ولا يجد في الناس إلا السوء، والخير عندهم معدوم، بهذه العقلية يتعامل "سوباكيفيتش" مع المجتمع.

والشخصية الأخيرة التي تناولها غوغول هي "بلوشكين" الأكثر ثروة والأكثر بخلاً في نفس الوقت، يمتلك أكثر من ثمانمائة شخص، بخيل جداً، يقوم بالاحتفاظ بكل مخلفات الناس، وكأنه عامل نفايات، لا يفرط بشيء أبداً، مهما كان تافهاً، يحتفظ بالطعام إلى أن يعفن، شخصية تتماثل مع بخلاء الجاحظ.
كل الشخصيات التي قدمها لنا الكاتب كانت سلبية، الإمعة والتابع المجرور، الذي لا يعرف سوى أن يردد ما يسمع، والخائف من المستقبل، والسكير، فأي طبقة تلك؟ وكيف يمكن القبول بسيادة تلك الطبقة؟

هكذا تحدث غوغول عن الطبقة المالكة في روسيا، طبقة تحمل كل السلبيات، شخصيات مريضة نفسياً، البخيل، والشكاك السوداوي، والتابع الإمعة، والمقامر والسكير والكاذب، ومن يحرم نفسه من متع الحياة ويتخوف من المستقبل، طبقة مريضة وتتحكم بالمجتمع، ولا تنتج وتعيش على خير الآخرين، وكأنه من خلال هذا الطرح يدعو إلى الانقلاب عليها، فهي لا تستحق أن تكون بمستوى القيادة أو السيادة.

نقد للمجتمع بعامته والطبقة الإقطاعية محور الرواية، التفاوت الطبقي وما يمثل من حالة غير سوية للحياة الإنسانية، ففي كل قرية زارها "تشيتشيكوف" كان يصف لنا البيوت التي يعيش فيها الأقنان، والقصر الذي يعيش فيه السيد الإقطاعي، فيجعلنا نتعاطف مع هؤلاء البؤساء الذي يقطنون الخرائب، التي لا تصلح للسكن البشري، فهو من خلال الوصف يقدم لنا نقداً للمجتمع الذي يعيشون فيه، ويدعو -بطريقة غير مباشرة- إلى تغيير مثل هذه الخرائب بمساكن يمكن للبشر أن يعيشوا فيها.

أسلوب روائي محبوك بفن قاص متمكن وروائي واقعي يحاور واقعه من خلال فكرة متخيلة، وهو يروي قصة وجوه جشعة تذهب ضحيتها الأنفس التي جاهدت في حياة لا إنسانية وهجاء أرستقراطي مبطن يرتكز على سخرية أحياناً من القوانين، وأحياناً أخرى على الفكر والعقل، وعلى استهجان تصرفات شخوصه بمختلف طبائعهم من خير أو شر أو بساطة أو عفوية ساذجة أو قوة وإدراك، وتملك ومعرفة تقود القارئ إلى فهم طبيعة الرواية بكل فصولها التراجيدية، كاشفاً عن عيوب المجتمعات.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد