نظر جون بيركو رئيس مجلس العموم البريطاني من أعلى كرسيه المغطَّى بالحرير، باتجاه القاعة
وصاح في أعضاء البرلمان المتشاحنين: "النظام! النظام!" في صوتٍ لم يمنع هذه الجلبة ولم يوقفها، وتخلّل صوته خنقةٌ وكان أشبه بصافرة إنذار لغارة جوية.
وزع بسخاء على الحضور إهاناته المنمقة العتيقة، فوبَّخ بمرح أحد الأعضاء لـ "غمغمته من دون فصاحة، وبلا أي سبب واضح".
وبدا أنه في خضمّ العذاب الذي شهده قصر وستمنستر خلال الأسبوع الماضي، بدا أنَّ شخصاً واحداً على وجه التحديد كان يحظى ببعض المتعة.
رئيس مجلس العموم البريطاني.. شخصية غير معروفة
قلَّما يولي العالم الخارجي مزيداً من الانتباه إلى رئيس مجلس العموم البريطاني، إذ يكون شخصية غير معروفة وغير حزبية ويرأس النقاشات البرلمانية.
لكن الشلل الذي تعاني منه بريطانيا في اللحظات الأخيرة للخروج من الاتحاد الأوروبي، أو ما يُعرف بـ "بريكست"، جعل بيركو شخصية مشهورة إلى حد ما.
نظراً إلى أنَّ البلاد لديها أقل من 10 أسابيع قبل أن تغادر الاتحاد الأوروبي
حظي بيركو بصلاحية استثنائية من خلال انتزاع بعض السيطرة على اتخاذ القرار بشأن بريكست من رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي
وهو ما أتاح للبرلمان التصرف لمنع مغادرة البلاد الاتحاد الأوروبي من دون التوصل لاتفاق.
وجعله هذا يحوز إعجاب البريطانيين، لدرجة أنَّ محطة إذاعية فرنسية منحته لقب "أفضل شخصية أوروبية في الأسبوع".
وقد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لقطات تعرض صيحته التي اقترنت به: "النظام، النظام!"
فريق ماي يهدد بيركو بأقصى العقوبات
لكن ذلك أغضب فريق ماي، الذي هدَّد بيركو، الجمعة 18 يناير/كانون الثاني، بأقصى العقوبات غطرسة
منعه من دخول مجلس اللوردات، وهو شرف مُنح لجميع رؤساء مجلس النواب لأكثر من 200 عام.
تبدو هذه لحظة استثنائية لبيركو، الذي يبلغ من العمر 56 عاماً، الذي كان والده سائق سيارة أجرة من شمالي لندن.
أحياناً يسخر منه الغرباء لقصر قامته (إذ لا يتجاوز طوله 169 سم)، لكنه استطاع أن يمضي بقوةٍ وبعزيمةٍ صلبةٍ
ودون مساعدة من أحد بين نخبة المجتمع البريطاني، التي تلقَّت تعليمها في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج.
ويُنظر إليه بطرقٍ مختلفة: تارة باعتباره متنمراً يزيح مِن أمامه الجميع من أجل مصالحه الذاتية، وتارة أخرى باعتباره مُدافعاً عن حقوق البرلمان.
صفات بيركو تظهر في لحظة حاسمة
وقد ظهرت تلك الخصال الشخصية إلى العلن في لحظة حاسمة، نظراً إلى أنَّ بريطانيا تندفع نحو موعد خروجها من الاتحاد الأوروبي
وفي الوقت ذاته تواجه حكومتها مأزقاً حول الاتفاق بشأن الخروج.
قال بوبي فريدمان، كاتب السيرة الذاتية لبيركو، وهو يتذكر قرار رئيس المجلس العموم، الذي اتخذه في 9 يناير/كانون الثاني
والذي يسمح للبرلمان بتعديل الجدول الزمني الذي اقترحته الحكومة بشأن بريكست: "إنَّه يتخذ القوانين على نحو منفرد".
تمنح مقترحات تعديل الجدول الزمني سلطةً إلى الحكومة لتحديد ما يحدث في البرلمان وتوقيتات الحدوث، ولا تعتبر قابلة للتغيير عن طريق البرلمان.
قال فريدمان عن قرار بيركو: "من وجهة نظر المهووسين بالسياسة كان الأمر مذهلاً للغاية"
مضيفاً: "لقد قال "سأفعل ما أريد". إذا كان الرئيس أي شخص آخر لكانت مفاجأة كبيرة، ولكن بالنسبة إليه ليس بالضبط".
يحب اللغة المنمّقة
حتى في بيئة السياسات البريطانية التي يكثُر فيها الكلام والسجالات، يبرز بيركو لتفضيله للغة المنمقة والإهانات اللاذعة.
وقال زميل لبيركو لفريدمان متحدثاً عنه: "لن يقول أبداً: "من الجيد رؤيتك".
بدلاً من ذلك سيقول: "إنَّه من دواعي سروري البالغ أن ألقاك من أجل هذه التوابل الرائعة التي صنعتها السيدة توينينغز".
وذكرت صحيفة The New York Times الأمريكية في عام 2013، نقلاً عن أحد المشرعين عنه:
"كأنه يذهب إلى السرير مساء كل يوم، ويقرأ المعجم، ويخزنه في عقله، ثم يتلوه في اليوم التالي".
من حين لآخر، عندما يتحدث أحد الزملاء في البرلمان، يمكن أن يصيح فيه بيركو قائلاً إنَّ هناك خطأً لغوياً في العبارة.
حتى الزي الرسمي يرفضه
لقد حقَّق بيركو شهرةً من مضايقة زملائه المحافظين، إذ لا يزال بعضهم غاضباً من قراره بعدم ارتداء الزي التقليدي لرئيس مجلس العموم
الذي يضم الشعر المستعار والبنطال القصير، وهو الزي الذي قال عنه إنَّه يصنع "عائقاً بين البرلمان والشعب".
غير أنَّ ذلك الغضب لا يقُارَن بالغضب الذي أعقب قراره بالسماح للمشرّعين بتعديل الجدول الزمني، مما يقيد فعلياً من سلطات الحكومة.
يُطلب من رئيس مجلس العموم البريطاني، على عكس نظيره الأمريكي، التخلي عن انتمائه الحزبي ويظل محايداً في الشؤون السياسية.
احتجّ كريسبين بلانت، وهو مشرّع من حزب المحافظين البريطاني، قائلاً إنَّ بيركو ربما لم يعد يستطيع أن يزعم أنَّه حكمٌ محايدٌ فيما يتعلق بقضية بريكست ويجب عليه التنحى.
واشتكى عضوٌ آخر في حزب المحافظين، وهو ديفيد موريس، من أنَّ بيركو وضع ملصقاً على سيارته يعبر عن وجهة نظره بشأن بريكست، وكان يعارض هذا الملصق الخروج من الاتحاد الأوروبي.
كتب موريس: "ينكر بيركو الادعاءات التي تشير إلى أنَّ سيارته وُضع عليها ملصقٌ، ويقول إنَّ السيارة تعود إلى زوجته، لكنه ربما يكون أيضاً ملصوقاً بقوة بصدره المنتفخ".
قال بيركو إنًّه صوَّت في 2016 من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، لكنه أصرَّ على أنَّه لا يحيد ناحية أي جانب في القضية الآن.
وبدلاً من ذلك أوضح أنَّه كان يدافع عن حق البرلمان في تحدي حكومة متنمرة.
الحكومة همَّشت دور البرلمان
وقال: "أفهم أهمية السوابق، لكن السوابق ليست ملزِمة تماماً، ولسبب بسيط للغاية، إذا كانت السوابق وحسب هي التي تقودنا، فمن الواضح أنَّه لا شيء في إجراءاتنا من شأنه أن يتغير. إنَّ الأمور تتغير".
قال المعلق السياسي المعارض لبريكست، إيان دانت، إنَّ الحكومة همَّشت دور البرلمان في هذه العملية، وادعت أن الاستفتاء منح السلطة التنفيذية شكلاً من السيادة أكثر صراحة.
وقارن هذه اللحظة بعام 1642، عندما اقتحم الملك تشارلز مجلس العموم، وطالب بإلقاء القبض على خمسة مشرعين بتهمة الخيانة.
رفض رئيس المجلس آنذاك، وهو ويليام لينثال، الانصياع إلى أوامره، وقال موجهاً حديثه إلى الملك في كلمة شهيرة إنَّه يتصرف فقط نيابة عن مجلس العموم.
قال دانت: "ما نشهده الآن هو إحدى هذه اللحظات الكبيرة من التغيرات الدستورية، عندما تبدأ التفكير في المقياسٍ، فإنك تبدأ في التفكير في الحرب الأهلية الإنجليزية".
والد وجد جون بيركو
بيركو هو حفيد جاك بيركويتش، الذي هاجر من رومانيا إلى الطرف الشرقي من لندن، وهو في السادسة عشرة من عمره.
أما أبوه تشارلي فكان يدير شركة لبيع وشراء السيارات المستعملة، ثم عمل سائق سيارة أجرة عندما اضطرت الشركة للإغلاق.
وصف الأصدقاء والجيران جون بأنَّه صبي ذو رأي، كان يضايق من حين لآخر معلميه في المدرسة بمعارضتهم داخل الفصل
وذلك حسبما كتب فريدمان في السيرة الذاتية التي حملت اسم "Bercow, Mr. Speaker".
كان يتحدث كما لو كان سياسياً في سن العاشرة
قالت أشلي فولر، التي كانت تلعب معه رياضة التنس: "كان يتحدث كما لو أنَّه سياسي وهو في العاشرة من عمره.
كان يأتي ليرى والدي ويقول: "سيد فولر، هل عرفت ما كُتب في صحيفة The Times في الصفحة الثالثة. إنَّه أمرٌ مخزٍ، عليّ أن أريك إياه".
لم يُخلصه نضجه المبكر وقصر قامته من التنمر في فناء المدرسة.
قال فريدمان إنَّهم كانوا يلقونه في بركة ماء ويضحكون ويقولون: "بيركو يستطيع أن يكون هناك مع البرمائيات الأخرى".
ذكر فريدمان أنَّ أحد زملاء بيركو في حزب المحافظين، وهو أندرو كروسبي، قال له في الجامعة "كنا نقتبس من فريق مونتي بايثون الكوميدي"
أما هو فكان يقتبس من بينجامين دزرائيلي، رئيس الوزراء البريطاني في القرن التاسع عشر".
وجد بيركو مكاناً له في السياسة، وهي مهنة يُؤمِّن إسهابه في الخطاب ميزةً له فيها.
عندما كان شاباً، تحالف مع أقصى اليمين في حزب المحافظين، وفي مرحلة ما روَّج للمساعدة في إعادة المهاجرين إلى أوطانهم، وهو موقف غريب بالنسبة لحفيد مهاجرين يهود.
يتذكره ناشطٌ كان زميلاً له في ذلك العهد وهو يحفظ ويتلو خطابات قالها إينوك باول، وهو مُشرع ينتمي إلى حزب المحافظين
اتُّهم على نطاق واسع بالتحريض على العنصرية. في فترة لاحقة من حياته أبعد بيركو نفسه عن تلك الحركة، ووصف أفكاره في ذلك الوقت بأنَّها "خرقاء".
مضى بيركو في طريقه، وكان عازماً بقوة على دخول البرلمان لدرجة أنَّه استأجر طائرة مروحية كي يتمكن من حضور اجتماعات
لاختيار المرشحين في دائرتين انتخابيتين خلال الليلة نفسها، وهي اجتماعات باعثة على النعاس في المعتاد وتتناول شؤون المقاطعات.
أول مُشرع يهودي على الإطلاق يتقلد هذا المنصب
في عام 2009، صار رئيس مجلس العموم أول مُشرع يهودي على الإطلاق يتقلد هذا المنصب. استقال بيركو من الحزب كما هو معتاد، بعد أن أصبح رئيس مجلس العموم.
وانتقلت سياساته ناحية اليسار، وتزوج من سالي، وهي ناشطة في حزب العمال. ويتحدث كثيرٌ من أعضاء حزبه عنه ببغضٍ صريح.
ذات مرة، سخر ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء آنذاك، من بيركو، أمام حشد من الصحفيين،
قائلاً إنَّ رئيس مجلس العموم سيصيح خلال حفل الزواج الملكي القادم قائلاً: "النظام! أريد أن أسمع ما يقوله الأمير".
وسخر من قصر قامته من خلال تشبيهه بأحد الأقزام السبعة، وتذكر حديثاً قال فيه بيركو: "لست سعيداً!" فردَّ عليه وزير شؤون الصحة: "حسناً، أيهم أنت؟"
صارت الإهانات أمراً أساسياً للتواصل بين الرئيس وأعضاء حزب المحافظين.
وصف وزير الصحة بيركو بـ "القزم المنافق الغبي". وطالبت وزيرة أيضاً، وهي أندريا ليدسوم، باختيار مرشحين لـ "أفضل الأشرار" في السنة السياسية،
وتحدثت عن "مخلوق صغير مزعج للغاية يصرخ كثيراً، ووجد مكاناً لنفسه في الرواق خارج مكتبي"، لكنها بعد ذلك أضافت بسرعة أنَّها كانت تشير إلى فأر، وليس بيركو.
وفي غضون ذلك، سخر بيركو من كاميرون بسبب خلفيته المميزة، مشيراً إلى أنَّ تخرج شخص من "كلية إيتون، وممارسة الصيد وإطلاق النار في نادي White's (وهو نادي للنبلاء في منطقة سانت جيمز)" لا يؤهله للقيادة.
بيركو لديه مزاج سيئ واتُّهم بالتنمر
يُقال إنَّ بيركو لديه مزاج سيئ واتُّهم بالتنمر على طاقم العمل لديه، وهو شيء ينكره. أشار تحقيق مستقل أُجري في الخريف الماضي إلى أنَّه يجب عليه التنحي، وقد ألمح إلى أنه سوف يغادر منصبه هذا العام.
غير أن الأحداث التي جرت في الأسبوع الماضي أكسبته مديحاً من جهات غير اعتيادية. فقد وصفته صحيفة The Times of London
بأنَّه "شخص قلما تعاطف مع جانب". وكتبت معبرة عن الرضا عن أفعاله، أنَّ تعاملات الحكومة مع البرلمان "بدت نابعة من القرن السابع عشر
إذ تستحضر باستمرار مسألة إرادة الشعب، وتشبه كثيراً عندما اعتادت أسرة ستيوارت الملكية التأكيد على الحق الإلهي للملوك".
أما بيركو، فإنَّه لا يهتم كثيراً بما يقوله منتقدوه، وذلك حسبما صرح لمجلة The House Magazine
في عام 2012، إذ قال: "إنَّهم يبذلون أقصى جهدهم في كتابة (نقدهم) والعالم يستمر. ليس لدي خطط للموت غداً، ولكن إذا مت غداً فسوف أموت وأنا سعيد للغاية".