تستيقظ كل يومٍ على صوت مُنبهك الذي أخرست غفوته سبع مرات، بالكاد تفصل خط رمشك العلوي عن السفلي، تتجهز وتنطلق لخط مسيرتك الأبدي، الذي يُلقي بلقمتك بين كفيل وكفيل، متحملاً خير وشر عميل ومدير.
السعي للرزق هو الصراع الأبدي لكل الناس، مهما اختلفت أعمارهم وعقائدهم ومكاناتهم الاجتماعية، والاستقرار المادي هو ما يسعى له غالبية البشر لتأمين شكل الحياة التي يطمحون لها هم وذووهم.
في ظل الظروف الراهنة في المنطقة أصبح طلب الرزق من أصعب المهمات، بل أصبح هماً، حروب من جهة، وغربة بكفيل من جهة أُخرى، خياراتك محصورة بين استقرار في الوطن دون التقرب من طموحك، وبين غربة بطموح دون استقرار. وكأن الغُربة هي الخميرة لعجينة حياتك التي ستخبز حلمك وبعضاً من مستقبلك، وشيئاً فشيئاً تُضيع الخميرة دربها، وبَدَل أن تستقر في بطن الغربة وتُجهز حلمك للخبز، تراها تستقر في بطنك المُغترب وتُجهزك للاحتراق.
أن تكون مُغترباً يعني الضرورة القُصوى والإلزامية على إتقان فن التنازل والكتمان، أن تُكبر عقلك مهما صغر عقل من حولك، أن تسكت عن حقك حُباً في حق أكبر تجنيه بعد انتهاء الخَبز.
في الغربة قوانين عدة، عُجن عليها غالبية المغتربين قبلاً، وورثوها للجيل المُغترب اللاحق، منها:
فرصة أن يكون لك أصدقاء كما الوطن ضعيفة، فالكل هُنا يسعى لرزقه ولا يعنيه حقاً أن يكون صديقك، والنتيجة أن تعود للوطن بلا أصدقاء من الغربة، وفي الوقت نفسه ذوبان صداقاتك العتيقة في قلب ذاكرة الوطن.
الإيمان بالفجأة، فرصة أن يتوقف حلمك فجأة، وأن تُباع سنوات خميرة غربتك عبثاً؛ لأن الكفيل لم يعجبه شعرك أو شكلك ذاك اليوم، أو لم يقتنع بهويتك فهذه جداً واردة، ولا يكون لك أي حق على الاعتراض أو الثبات، ففي النهاية أنت غريب وإن لم يُعجبك ارجع لوطنك، فأبواب وطنك مفتوحة على الدوام!
أن تكون أنت الأصغر مهما كبرت، أن تتحمل المواطن لأنك المُقيم، أن تُرمى غُربتك في أقرب سلة مهملات بالتزامن مع تغير مدير يعشق جاليته، وللأسف أنت لا تنتمي لها، فيغُير "طقم" حاشيته التي لا تحتوي عليك، ومع كل هذا لا يحق لك الاعتراض والدفاع عن حلمك وسعيك، والدفاع حتى عن هويتك التي لا ذنب لها سوى أن كانت بذاك الشكل!
تموت الخميرة في الماء والجو البارد، وكذلك خميرة الغربة تموت مع احتضار كل زاوية في الجسد، أن تعترض بصمت، وأن ترد الإهانة بصمت، وأن تسعى لرزقك بمنتهى الصمت، أن تمشي وتأكل وتقود سيارتك بصمت، أن تُربي ابنك على عاداتك بصمت، وإن أمكنك أن تتحدث بصمت وتخترع أبجدية صامتة فستكون المغترب المثالي، بصمتٍ وبرود حتى تصل بك الأيام لمرحلة التجمد!
الأمس يُشبه اليوم، واليوم توأم الغد، وكل الأسبوع مع شهره وسنته يتقلب في الثلج، تموت الخميرة في بطن المغترب، واللقمة التي دفع ثمنها عُمراً وشباباً تُخبز وتحترق، ويستقبل الوطن ابنه البارد الشقي رمادي الشعر وخطوط خريطة غربته مرسومة على وجهه، وبطنه المُحترق يُخفيه تحت قميصه "الماركة" حتى لا يُقال له "مثل ما رحتي جيتي"!
فيغترب المُغترب بخميرة جديدة مرة أخرى في وطنه، ويصمت.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.