يحكى أن الأمان لا يستشعر إلا مع الأوفياء، فلنقاء أرواحهم يعرف الوفاء إليهم طريقاً، وهذا بالفعل ما تمنحه هذه السجية لمن يتصف بها، ومن خلالها يحس المرء بنقاء الشخص الذي يتميز بها عن غيره.
لكن يبدو أنه لما غزت المادة عقول وقلوب الآدميين أصبحوا لا يرون غيرها، وهذا مما أسهم كثيراً في ندرة مخزون الوفاء في واقع الناس، وحتماً لا يمكن إنكار أن نفاد هذا المخزون يمثل نوعاً من الخطر الذي يحدق بالإنسانية اليوم.
قد تصادف في حياتك مواقف كثيرة لكن لا تعلق في ذاكرتك إلا التي تركت أثراً بالغاً في نفسك، ومن تلك المواقف ما يحدث لك مع مَن لا يشم في سلوكياتهم رائحة للوفاء، فتستحيي من صنائعهم حين تتفكر ما أبصرته من وفرة لمخزون الوفاء عند كثير من الأنعام.
كم هو لطيف حين تزعم أنك من الأوفياء، ولكن ألم تسأل نفسك عن أهم تجليات الوفاء الذي تدعي في معاملاتك؟
لقد بدأ في السير دون أن يتكئ على الكتف التي بها استطاع أن يتعلم كيف يتمشى.. فهرب وأنكر الجميل، ويا ليته وقف عند ذلك! بل ابتعد.. وبدأ يسب ما كان يسنده في بداية المسير!
ماذا تنتظر من مجتمع يتفاخر بمنح دور البطولة لمن لا يملك ذرة وفاء في أفعاله؟
عوّد نفسك على أن هناك صنفاً من البشر لا يعرف الوفاء إليهم سبيلاً في تصرفاتهم وأفعالهم غير أن ألسنتهم لا تتوقف عن التبجح بتميزهم بسجية الوفاء.
ومما لا شك فيه، أن الوفاء حقيقة لا يمكن أن تدرك إلا حين تلامسها واقعاً، ولن تستطيع معرفة القيمة الحقيقية لهذه السجية كما ينبغي أن تعرف ما لم تتذوق مرارة طعم الخيانة فكثيرة هي الأشياء التي لا يمكن معرفتها حق المعرفة إلا بنقيضها.
في نظري الخاص ليس هنالك خيانة أكبر من أن يعيش الإنسان في وطن يكون حجم الخيبة التي تتجرع فيه أكبر من مقدار الطموح الذي يحمل له ولأجله.
ومن منطلق شخصي أرى أنه من أهم ما يعجل من نفاد مخزون سجية الوفاء بشكل كبير:
– منح الغضب والكراهية فرصة للسيطرة عليك، خصوصاً حين يكون ذلك تجاه أشخاص معينين، فيصبح ذلك الشعور سائراً في فكرك.
– غلبة الحس النرجسي على النفس مما يجعل الطابع الأناني سائداً على فكرك، فتحاول بذلك أخذ كل شيء حولك، وإن أدى بك الحال إلى الوصول لحد الجشع والطمع فيما عند الآخرين.
– إعطاء الانتقام حيزاً في تفكيرك بمحاولة تصفية الحسابات ورد الأذية بمثلها، وهذا من دون شك له عواقب سلبية كثيرة، فالقوة الحقيقية تكمن في القدرة على التسامح.
– استيلاء سوء الظن على فكرك، فتنعدم الثقة بالآخرين مما يكثر من الشكوك السيئة والأوهام الفاسدة والأفكار المريضة، وبذلك تصبح العلاقات بجميع أنواعها هشة.
– طغيان المادية والمصلحة الشخصية على كل ما هو إنساني نبيل، فتضيع المبادئ والقيم ويتسافل الإنسان إلى الحيوانية.
وغنيّ عن البيان أن سجية الوفاء لا تبرز لدى أصحاب النفوس النقية إلا بخلق نوع من القطيعة السلوكية مع ما سبق ذكره من معجلات تسهم في نفاد مخزن تلك السجية. والرقي القيمي لا يمكن أن يتم بعيداً عن إعادة إحياء قيمة الوفاء وتفعيلها في واقع الناس، فالسلوك الذي يغذيه الوفاء يسمو لأبعد الحدود.
إذا ما اعتبرنا أن الوفاء نوع من العطاء الإنساني النبيل، فإنه ينتظر حصوله من منظوري الشخصي من هؤلاء:
– مَن قدم لك يد المساعدة وأعانك دون مقابل.
– مَن آمن بك ووثق بك رغم كثرة المشككين حولك.
– مَن يصاحبك لذاتك لا لمصلحة فيك ولا طمعاً لشيء منك.
– مَن يعتذر إذا أخطأ حفاظاً على الود.
– مَن لا يتغير سلوكه مهما تغير حاله وزادت حيلته.
– من لا يستطيع أن يكون في حالة الفرح حين تخطئ وتقع في الزلل.
– مَن لا يتهاون في الحفاظ على ثالوث الوفاء المقدس (السر، العهد، الأمانة).
وكل هذه الاحتمالات المذكورة هي على سبيل المثال لا الحصر.
يمكن القول إن قمة الانحطاط القيمي حين تنحصر العلاقات والمعاملات الإنسانية في الجانب المصلحي فقط ما لم يكن لسجية الوفاء رصيد في السلوك العملي! ويصبح للوفاء قيمة حين يكون همساً وإسراراً بالأفعال، لكنه في المقابل يكون شيئاً مبتذلاً حين يصير مجرد قول يستطرد جهاراً؛ لذا فمن المؤكد أنه سيفهم الآن جيداً لماذا وصف مخزون الوفاء بالندرة وقرب النفاد.
من كل ما سبق يتبين أنه من اللازم العمل على توحيد الرؤية الإنسانية محاولة في رفع نسبة ملء مخزون سجية الوفاء في الظرفية الراهنة، فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة استرجاع ما نفد من هذا المخزون من جديد، وبثه في النفوس كسلوك عملي فعال لتحقيق التنمية الذاتية خاصة، والإنسانية عامة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.