ما زالت أصداء استفتاء بريطانيا الذي صوَّت فيه الإنجليز بالخروج من الاتحاد الأوروبي تتوالى، والحديث عن التبعات والإجراءات سيستمر لشهور طوال.
فقط أريد أن أضع تركيزاً على ثلاثة أمور مهمة (من وجهة نظري) تلت هذا الاستفتاء:
أولها: أن مَن رفض الخروج -غير المتوقع- احترم خيارات المصوتين للخروج (رغم أن الفارق بينهما أقل من 1.5% فقط) ولم يتم تسفيههم أو اتهامهم بالجهل.
الأمر الثاني هو إعلان ديفيد كاميرون، رئيس وزراء إنجلترا، الاستقالة، داعياً إلى انتخاب رئيس وزراء جديد يخلفه، ففي الديمقراطيات المستقرة ليس مسموحاً لحاكم بالبقاء في منصبه طالما فشل في الإيفاء بتعهداته أو أخل بالتزاماته وقصّر في تأدية المطلوب منه.
كاميرون المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي لم يجد مفراً من إعلان رحيله خلال ثلاثة أشهر، معلناً أن مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي لا بد أن تتم مع رئيس وزراء جديد.
هكذا الحال السليم عندما يفشل مسؤول أياً كان موقعه، لا بد أن يرحل ولا يقوض التقاليد الديمقراطية لمصلحة بقائه.
الأمر الثالث الأكثر أهمية هو المطالبة باستقالة رئيس حزب العمال البريطاني (المعارض) الذي يتهمه قيادات في الحزب نفسه بأنه لم يقدم المطلوب لإقناع أنصار الحزب بالتصويت للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي، مطالبة صريحة باستقالة الرجل تبعها ضغط باستقالة بعض وزراء حكومة الظل العمالية (حكومة الحزب المعارض وهو تقليد بريطاني تحسباً لسحب الثقة من الحزب الحاكم)، فمسؤول أي حزب يستقيل إذا خسر في انتخابات أو أخفق في قيادة الحزب.
الآن أريد إسقاط الثلاثة أمور السابقة المصاحبة للحالة البريطانية على الحالة المصرية.
ما نعيشه في الحياة السياسية المصرية ما هو إلا تسفيه واستخفاف بالمصوّتين في أي انتخابات أو استفتاءات واتهام لهم بعدم الفهم ووصفهم بالأتباع المساقين، وهو أمر لا تستقيم معه تقاليد حياة سياسية سليمة طالما ظل المناخ العام هو التشويه والاتهام.
ورغم ذلك لا يستطيع مُصدرو تلك الأحكام والاتهامات الإجابة عن تساؤل: "لماذا لم يستطيعوا الحصول على أغلبية تصويت الناخبين أو الانحياز لرؤيتهم؟".
استقالة المسؤول بعد خطئه أو فشله أمر مستبعد تماماً في الحالة المصرية، ولن نذهب بعيداً ونقلب في الماضي وواقع الحال يجسد هذا، فكل يوم هناك تسريب لامتحانات الثانوية العامة فهل استقال وزير التعليم المصري؟
ولماذا يستقيل ورئيسه نفسه فشل في تحقيق ما وعد به سابقاً من إحلال الرخاء عندما طالب الناس بالصبر عليه سنتين فقط، وبعد سنتين لم يجد الناس غير انهيار اقتصادي وتراجع في قيمة الجنيه وارتفاع جنوني في الأسعار وتناقص الدعم وضعف في الخدمات، بل تجاوز هذا بالفشل في ملف مياه النيل وواصل التنازل عن الغاز المصري في البحر المتوسط وتابع بالتنازل عن الأرض المصرية (جزيرتَي تيران وصنافير)، كل هذا يتم ضد رغبة الشعب الذي ضج منه ويرغب في رحيله، لكنه لا يبالي بالشعب، ولا يشعر بأي غضاضة بإرجاعه لمصر للخلف عشرات السنين بسبب انقلابه العسكري المشؤوم وإجهاضه لتجربة ديمقراطية وليدة.
مثلما يتشبث المسؤول التنفيذي بموقعه رغم فشله يحذو رؤساء الأحزاب المصرية (القديمة والجديدة) نفس المسلك.
الاستمرار في قيادات الأحزاب يؤدي إلى جمود الحزب نفسه، فهناك الحزب الذي ظل رئيسه على قمته منذ عودة المنابر في نهاية السبعينات حتى ثورة يناير/كانون الثاني، وهناك أعرق الأحزاب المصرية الذي يعيش لأكثر من عقد صراعاً على رئاسته أدى إلى انقسام لجبهات فتراجع دور الحزب نفسه، ومن الأحزاب من نشأ مغلقاً ولم يقدم شيئاً وانتهى عملياً بعد الانقلاب العسكري، ومنها مَن قاده رئيسه للخوض في مستنقع 30/6 ورغم ذلك يظل رئيساً له إلى الآن ولا يشفع له المطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة لإصلاح خطئه.
حتى أحزاب 30/6 التي ملأت الدنيا ضجيجاً لم نشعر بوجود قوي لها على الساحة السياسية، فما بين حزب صاحب تأسيسه تفاؤل بإثراء الحياة السياسية لم يصمد بعد رحيل مؤسسه خارج مصر وتفكك إلى كتل ومجاميع، وآخر وُصف بعد الانقلاب بأنه الحزب الحاكم لكن لا دور فعلي له بعد أن طُردت حكومته من السلطة بعد أشهر قليلة من تشكيله لأول حكومة بعد الانقلاب، وليس آخراً بالذي يسير خلف مموله ويرضى بكتلة محددة داخل البرلمان لا تساعده سوى في الظهور الإعلامى، ومنهم مَن يقوم بتركيب اللحية أو إزالتها بحسب صدور الأوامر له، أحزاب ارتضت بالعمل وفق هامش مساحة صغير حدده لها صناع القرار الذين حددوا من يدخل البرلمان ومن يُستبعد منه.
بالأعم الأحزاب المصرية الحالية واجهات لكيانات غير سياسية سواء دينية أو رأسمالية أو تجمع مصالح يعزز القبلية، وهي بعيدة كل البعد عن المعنى الحقيقي للحزب السياسي ودوره، وتفتقد لأي ديمقراطية داخلية تمكنها من تجديد نفسها بنفسها بدون انقسامات أو انشقاقات، وتعتمد على الشللية وترضخ للممولين، ولا تعترف بخطئها ولا تسعى لتصحيحه ولا تشعر بمسؤولية تجاه الناخبين.
إذا أردنا أحزاباً حقيقة فلننظر للأحزاب الإنجليزية، وإذا أردنا بيئة سياسية سليمة فلننظر إلى الحالة البريطانية، وإذا أردنا حياة سياسية حقيقية فلا بد أن نحترم خيارات بعضنا البعض وفق عقد اجتماعي جديد ومنصف.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.