درَجَ قديماً عند العرب مقولة جَرت مَجرى المَثَل، عند وصفهم لشيء بأنه مستحيل، فيقال: هذا من رابع المستحيلات..
طبعاً (كانت) المستحيلات الثلاثة الأولى هي: الغول والعنقاء والخِلُّ الوفي.. لا تستغرب عزيزي القارئ من الهلالين المحيطين بفعل (كان) فهما عن قصد، فقد تغيرت الأمور في أيامنا الحاضرة، فكما لكل زمنٍ دولةٌ ورجال.. أيضاً لكل زمنٍ مستحيلات وممكنات، فقد أضحى ما كان محالاً عند العرب سابقاً متوفراً في أيامنا هذه، ودليلُ هذا كالتالي:
الغــــول:
متوافر في زماننا بكثرة وهو على ضربَين:
تغوّل أخلاقي: ومثاله المخلوقات التي تنتشي من رؤية الموت والجثث والأشلاء وتتشمّت وترقص على جراح ومصائب البشر، منسلخين بذلك من القيم الإنسانية المغروسة بالفطرة، أو الذين هم في الواقع نكرات في الحياة لا يعتدُّ أحدٌ برأيهم رغم ذلك يجلسون وراء شاشات الحواسيب متكئين على الأرائك، مصدِرين أحكاماً عن طريق حسابات بأسماء وهمية في مواقع التواصل الاجتماعي على غيرهم من البشر تعزيراً وتكفيراً وحتى إعداماً وتقتيلاً وتنكيلاً.
وتغوّل شكلي: خلقنا ربُّنا -عزّ وجلّ- بأحسن صورة، وهذا ما يسمى بالجمال الطبيعي، بصرف النظر عن معايير الجمال الدارجة (الموضة)، فهي متغيرة من زمان لزمان، ومن مكان لمكان، ومن مجتمع لمجتمع، ومن بيئة لأخرى، وحتى من شخص لآخر، ولكن نتيجةً لعدم القناعة بهذا الجمال الطبيعي المذكور آنفاً، دخلنا في نفق له بداية وليس له نهاية من تغيير الخِلقة بالمبالغة في ما يسمى زوراً وبهتاناً (مواد تجميل)، أو بالعمليات البلاستيكية دون أي ضرورة طبّية فعلية (أفضّل تسميتها عمليات بلاستيكية كترجمة حرفية من اللغة الإنجليزية فهي ليست عمليات تجميل بالضرورة)، كما وجدَ عُبّْادُ الدرهم والدينار ضالتهم عبر تسويق آلاف الأجهزة والمواد الكيميائية لتسمير الأشقر، وتشقير الأسمر، وتفتيح الغامق، وتغميق الفاتح، وتكبيّر المصغّر، وتصغير المكبر، هذا عدا عن مصممي الأزياء الذين تسابقوا أيُّهم يخرج لنا موضة أسوأ من التي قبلها، ولا ننسَ طبعاً الهرمونات والمنشطات التي أدمنها بعض الشباب؛ ليضخِّموا عضلاتهم بوقتٍ قياسي، هذه العوامل أنتجت لنا جيلاً كاملاً من الغيلان (ذكوراً وإناثاً).
العنقــــاء:
في الأعوام المنصرمة رأينا رأي العين كثيراً من الأشخاص خرجوا من تحت ركام الحياة بعد أن هبطت على رؤوسهم نائبات الدهر، وهم ينفضون عنهم غبار المصائب، ويكملون طريقهم رغم التعب، ورغم بشريّتهم الضعيفة، لكنّهم اتخذوا الصبّر عوناً لهم على السير من جديد، أملاً بنتائجٍ محكمةٍ قاضيهاً أعدل القضاة؛ ليجزيهم أجورهم بما صبروا.. قَصصُ هؤلاء أعجب بمراحل من أسطورة العنقاء (طائر الفينيق)، التي تقول إنه يتحول عند إحراقه إلى رماد، ثم يخرج من بين الرماد طائراً من جديد.
الخِـــلّ الوفـــي:
الصديق الوفي ليس مستحيل الوجود، ولكن يصعب إيجاده، وتذكّر دائماً أنه قد يكون أمام ناظريك، ربما كان زوجاً أو زوجةً أو أخاً أو أختاً أو زميلاً أو زميلة في العمل، وإن وجدته فلا يظهر لك معدنه الأصيل إلا عند الشدائد، ودليله قول الشافعي رحمه الله:
جزى الله الشدائد كل خيرٍ *** وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها إلا لأني *** عرفت بها عدوي من صديقي
إن حالفك الحظ ووجدته فتمسّك به وحافظ عليه، وتذكّر أن لكلٍ منكما كينونته الخاصة، فأبقِ مسافة صغيرة بينك وبينه؛ لتدوم العلاقة طويلاً، كما تبقي مسافةً بين حدقة العين وكلمات هذا المقال حتى تستطيع القراءة، فالقرب الشديد مَضرّة، والبعدُ جفاء.
بعد هذا السرد نجد أن ما كان مستحيلاً أضحى متوافراً، وبالمقابل بعض الأمور أصبحت من النوادر، وإن بقينا على نفس نسق الخط البياني الحالي للحياة، فقريباً جداً ستنقرض وتصبح من المستحيلات، وأذكر بعض هذه الأمور على سبيل المثال لا الحصر:
• شخص يزور مخيماً للاجئين لأي سبب كان، ولا يلتقط لنفسه صوراً هناك لينشرها لاحقاً، ولا تحدثه نفسه بذلك.
• أن تقدم نصيحة لشخص ما فيتقبلها منك دون أن ينزعج منها، ودون أن يبحث لك عن زلّة ليبين لك أنك لست بأفضل منه ولا يحق لك النصح، مهما كانت النصيحة صادقةً، والهدف منها مصلحته هو.
• المستمع الجيّد، الذي ينصت لك ويتفهّم وجهة نظرك دون مقاطعتك أو العبث بهاتفه الذكي.
• إرضاء جميع الناس في كل الأوقات.
• تغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصّة.
• ترك بعض المباحات، خوفاً من الوقوع ببعض المحظورات ودرءاً للمفاسد.
• إيثار الغير، أو حتى على الأقل مراعاة مشاعرهم.
• الحياء في النفوس (أرثيه وفي قلبي حُرقة).
والقائمة تطول وتطول، أظنّك عزيزي القارئ لديك عشرات الأمثلة الأخرى.