صورة اللاجئ السوري في لبنان

والحال أن صورة اللجوء السوري في لبنان تتأرجح بين حدّي اليأس التام والانتحار أو النجاح الباهر وتجديد الحياة، والقصص الكثيرة التي يعيشها السوريون واللبنانيون في حيواتهم المشتركة والمتقاطعة تكشف بدورها عن تأرجح قوي بين نزعات عنصرية ونفور وعداوة وتمييز واستغلال وقهر وابتزاز يومي من جهة، وقبول واندماج وتسامح وتكافل وتضامن يومي من جهة ثانية.

عربي بوست
تم النشر: 2016/06/28 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/06/28 الساعة 07:33 بتوقيت غرينتش

كان انتحار الشاب السوري، الفلسطيني الأصل، حسن رابح، مناسبة لتجديد الشكوى من أحوال اللاجئين السوريين في لبنان، بوصفها مبعثه للقنوط واليأس، لكن خبر فوز الطالب السوري في لبنان محمد الكوشك بالمرتبة الثانية في شهادة البريفيه بمعدل 19.20، أتى ليبث روحاً تفاؤلية ومثالاً لأمل متجدد في حياة اللاجئين السوريين.

والحال أن صورة اللجوء السوري في لبنان تتأرجح بين حدّي اليأس التام والانتحار أو النجاح الباهر وتجديد الحياة، والقصص الكثيرة التي يعيشها السوريون واللبنانيون في حيواتهم المشتركة والمتقاطعة تكشف بدورها عن تأرجح قوي بين نزعات عنصرية ونفور وعداوة وتمييز واستغلال وقهر وابتزاز يومي من جهة، وقبول واندماج وتسامح وتكافل وتضامن يومي من جهة ثانية.

الامتحان اللبناني والمحنة السورية

وبعيداً عن الغرائز الأولى، أكانت عنصرية أو "أخوية"، يختبر السوريون واللبنانيون معاً فوارقهم ومشتركاتهم، وصعوبة إقرار المختلف وتعيينه وتقبله، كما صعوبة إقرار التمايزات في الماضي والحاضر، وكذلك الاعتراف بحساسيات مستجدة نابعة من "مخاوف" لبنانية، ومن "إحباطات" سورية، فضلاً عن مشقة استيعاب تداعيات الكارثة الوطنية التي حلت بالشعب السوري وحولت نصفه إلى مهجّرين ومنفيين ولاجئين، وعلاوة على كل ذلك، فإن السوريين، منذ اندلاع ثورتهم، يتعرفون أكثر من أي وقت سابق على سوريتهم وعلى إخوتهم في المواطنة من مناطق وأصقاع متباعدة. كذلك، فإن اللبنانيين يمتحنون انقساماتهم ويمظهرون ضعف دولتهم وشقاق جماعتهم وانحطاط اجتماعهم السياسي، ويكتشفون هزال "وطنيتهم" وقسوة الهوات الطبقية والثقافية والطائفية التي تفصل بعضهم عن بعض.

ورسم صورة اللاجئ السوري وأحواله في لبنان سيظل اعتباطياً واختزالياً، بقدر ما هو تقريبي وغير مكتمل، فليس هناك سوري واحد "يمثل" مجمل السوريين، ولا حكاية واحدة تقول حيوات مليون ونصف المليون سوري يعيشون في لبنان. مع ذلك نحاول ونجازف، بعيداً من ادعاء شمولية الصورة، واقتصارها على التجربة الذاتية والتعارف الشخصي والمعاينة الواقعية والمعاشرة المباشرة.

تجنباً للتعميم ولسذاجة المألوف وطمأنينة الصداقات، لن أتطرق إلى حال "السوري المثقف" الذي يعيش في بيروت فيكتب وينشر ويمثّل ويعزف ويصوّر ويرقص ويحلم ويجلس في المقهى ويفرح ويحزن، ولا "السوري الثري" الذي استقر في بيروت، عملاً وإقامة واستثماراً وأماناً، ولا "السوري السائح" الذي يقضي حاجاته وراحته ونقاهته ويعود إلى دمشق أو اللاذقية متى أراد، ولا "السوري العامل" التقليدي في الزراعة أو ورشات البناء.. لكن فقط سأتطرق إلى ذاك "السوري اللاجئ"، هكذا عارياً من أي صفة، مشرداً خارج التصنيفات الاجتماعية.

ابن درعا
تسنى لي، برفقة الصديق محمد أبي سمرا، أن ألتقي بالشاب السوري محمود (28 عاماً)، في البقاع، قرب مدينة زحلة، كان ينتظرنا في بلدة زراعية تقع على طريق شتورا – بعلبك، هناك قرب باحة المسجد؛ حيث نشأ مع كثافة تدفق عائلات اللاجئين السوريين، سوق مرتجلة للخضر والثياب والأدوات المنزلية، كان واقفاً يحمل دفتراً مدرسياً، متوثباً للقاء صحفييَن، بشيء من الاعتداد والحماسة.

استقل محمود سيارتنا، وقادنا إلى ما ظنه مكاناً جيداً لإجراء مقابلة، هو فرع من فروع "ماكدونالد"، محمود من بلدة الحارّة في محافظة درعا، خرج من قريته لأول مرة مباشرة إلى البقاع اللبناني عام 2007؛ لينتسب كطالب إلى كلية الآداب في الجامعة اللبنانية في زحلة، وينال فيها شهادة الماجستير بالتاريخ، ثم يعود إلى بلدته.

يذكر محمود، وهو ابن عشيرة عربية محافظة، في أسرة مكونة من تسعة إخوة، أن أول ما فاجأه في لبنان آنذاك هو "سفور" البنات: "فقط في التلفزيون كنا نرى السافرات هكذا بتلك الملابس الخفيفة"، ويضيف: "ربما كان في دمشق ما يماثله، لكني لم أذهب إليها"، رداً على استغرابنا.

في أثناء حياته الجامعية، ولتأمين معيشته، كان محمود يعمل كـ"مياوم" في أي عمل يتوافر له: حصاد البطاطا، قطف العنب، ورشة بناء، نقل أثاث، جلي الصحون والخدمة في المطاعم: أؤمن إيجار الغرفة المشتركة مع ثلاثة آخرين (حوالي 70 ألف ليرة حينها)، وأرسل إلى أهلي حوالي مائة وخمسين دولاراً كل شهر، فأبي يعيل أسرة كبيرة من بسطة أحذية في البلدة.

يعترف محمود أنه أتى للدراسة في لبنان؛ ليؤجل قدر الإمكان خدمته العسكرية الإلزامية، وخروجاً من أزمة عاطفية عندما كان تلميذاً في الثانوية العامة، حين أحب فتاة من البلدة، من غير قدرة على الزواج منها، وسرعان ما اقترنت محبوبته بمغترب يعيش في السعودية: "حينها بدأت بكتابة الشعر.. شعر عذري لا إباحي، نحن نصون الأعراض".

يظن محمود أن الأوضاع في بلدته بدأت تسوء في أواخر التسعينات: "وجدت الناس نفسها غير قادرة على العيش من الزراعة. كل شيء تغير في حياتنا، ولا أبالغ إذا قلت أن تسعين في المئة من شباب البلدة غادروا، إلى بريطانيا وقبرص، لست أدري لم إلى هذين البلدين بالتحديد، كأن أحداً اهتدى إلى ذلك فلحقه الجميع، كانت الهجرة تكلف حوالي 30 ألف دولار، يبيعون الأرض ويذهبون للعمل هناك لخمس سنوات على الأقل، فيحصلون على الإقامة الدائمة أو الجنسية، ويجمعون مبالغ تكفيهم للعودة، وبناء منزل جديد ثم الزواج وتأسيس عمل في محافظة درعا".

قبل الثورة، حين كان طالباً في لبنان، كان يشعر أنه "يتفرج" على الحياة الجيدة: "كنت أتعرض لنظرة التكبر من اللبنانيين، لكني كنت أظن ذلك طبيعياً أو عادياً"، راداً السبب لفقره لا لسوريته: "كان لدي زملاء لبنانيون فقراء مثلي، ولا مشكلة في معاشرتهم.. فبعد انسحاب الجيش السوري من هنا، لم نعد نهيب أو نخيف أحداً".

اللجوء إلى البقاع
تغير الأمر بعد الثورة: "بعد مجزرة المسجد العمري في درعا، والهبّة الشعبية في كل المحافظة، وبداية تشكل فصائل الجيش الحر، بدأ النظام بقتل الناس، بالقصف والقنص والدبابات والطيران، وعلى الحواجز، وصلت الحرب إلى بلدة الحارّة، فهربت إلى البقاع مع اثنين من إخوتي".

لم يذهب محمود إلى مخيم لاجئين: "أستطيع أن أعمل، لست عاجزاً لأنتظر إعاشة. والناس في المخيم كأنهم في سجن. يسيطر المشايخ على المساعدات؛ الشيخ هو الذي يوزع ويعطي ويمنح، إذا أتته امرأة جميلة يستقبلها، وغالباً ما يطرد المرأة البشعة، لا تصدقوا ما يقال عن قلة المساعدات، هي كثيرة جداً، لكنهم يستولون عليها. مثلاً، ذهبت مرة في عمل دهان لمنزل أحد مسؤولي الإغاثة، بعدما انتهيت من الشغل دفع مقابل أتعابي، ثم أخذني إلى كراج البيت الممتلئ بصناديق الحصص الغذائية، ومنحني صندوقاً، حينها رحت أفكر أنه إنسان طيب وأراد مساعدتي، لكن أيضاً ليس له الحق أن يحوزها ويضعها في منزله ويوزعها لمن أراد، وليس لي الحق في الحصول على إعاشة غذائية تحتاجها نساء أرامل وأطفالهن، أناس لا يعملون ويعيشون في خيمة".

يعيش محمود مع ثلاثة آخرين في غرفة من أحجار الباطون، غير مكتملة البناء، هي في الأساس دكان صغير، ومن مهاراتهم في أعمال البناء، اصطنعوا ما يشبه المطبخ والحمام، غرفة توزعت فيها فرش الإسفنج البالية بأغطيتها المهترئة، وتنتشر على جدرانها ثياب معلقة على مسامير، وتلفزيون قديم، وضعوا تحته صناديق خشبية تحوي أغراضاً وكتباً.
يستيقظ محمود ورفاقه عند الساعة السادسة والنصف، ويذهبون إلى "العمل"، يجلسون تحت الأشجار القليلة على الطريق العام مع عشرات السوريين الآخرين، بانتظار أن يأتيهم "الرزق"، زراعة وقطاف، نقل وعتالة، دهان وبناء وهدم، تكسير أحجار وصخور، تفريغ شاحنات من حمولتها.. إلخ. ثم يعودون عند ساعة الغروب، مارين بالسوق: "نشتري البصل والزهرة (القرنبيط) والكوسة والبطاطا والباذنجان والبندورة، ونطبخ طبخة واحدة. نقفل الباب ولا نتجرأ على الخروج عند بداية الليل، فمهما حدث في الخارج لا نتدخل ولا نظهر. نجلس أمام التلفزيون ونشاهد البرامج اللبنانية مثل "أحمر، بالخط العريض" أو "بلا طول سيرة"، ثم ننام حوالي العاشرة والنصف. هذا هو يومنا كل يوم".

وعن رأيه في مشاكل اللاجئين في لبنان، يقول: "يا أخي، الذين في المخيمات أقل من 500 ألف، أكثر من مليون سوري في لبنان يستأجرون البيوت ويعملون وينفقون أموالهم في هذا البلد، يعني هم يشغلون اقتصاد البلد ويرفعون أسعار الإيجارات وينفقون أموالهم وثرواتهم القليلة والكثيرة، وليسوا عالة على أحد، أنا خريج جامعي أعمل في العتالة وبكل شيء، هل من طالب لبناني يقبل بذلك، بشقاء نهار كامل مقابل 20 أو 30 ألف ليرة فقط؟ لا أحد منا يقبل التوطين، نحن ننتظر استقلال بلدنا لنعود".

حب ممنوع
أسأله: أنت شاب، وبكامل عافيتك، وسيم وقوي البنية، هل لك حياة عاطفية، علاقة مع إحداهن؟ فيسرد قصة تقرّبه من فتاة بعلبكية، راح يتنزه معها في شارع البلدة، إلى أن أتاه شابان لبنانيان وهدداه: ممنوع عليك معاشرتها، فتركها خوفاً من أذى يصيبه أو يصيبها: "هذه هي حياتي العاطفية".

أما عن يوم العطلة، فيذكر أنه، الصيف الماضي، وضع في جيبه 30 ألف ليرة لبنانية واتجه إلى بيروت: "صعدت الباص، ولم أنظر إلى أحد، لم أكلم أحداً، وصلت إلى ساحة الكولا، وتوجهت مشياً إلى شاطئ الرملة البيضاء، قضيت النهار أسبح وأسبح وأسبح، لم أنظر أو أكلم أحداً، صمت وسباحة طوال الوقت، إلى أن جاء أحدهم وجلس بقربي وراح يحدثني، عرفت أنه بلجيكي يدرس العربية في بيروت، هذا الأجنبي هو الوحيد الذي كلمني في ذاك اليوم".

سأله محمد أبي سمرا: بِمَ تحلم يا محمود، ما هي مناماتك؟ فراح يسرد حلماً يعود فيه إلى بلاد عشيرته، ويرى ناقة جميلة تأخذه تحت ضوء القمر إلى أرض مجهولة: "أحببت هذا المنام، لأني لم أخف فيه، مناماتي كثيراً ما تكون مخيفة، نحن نخاف من الشرطة، من "الأمن العام"، من الشبان اللبنانيين، من صاحب العمل، من "حزب الله"، من صاحب البيت، من سائق الباص، من اللصوص والمجرمين، من الأحزاب.. نخاف في الليل، نخاف في النهار.. هذا حالنا كل يوم".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد