إن القوة التي لا يحكمها وعي هي قوة همجية تتجاوز جميع الحقوق والأعراف المتعارف عليها، وتفاجئ الآخر دائماً بعدم جدواها عملياً، رغم كمية الطاقات المادية التي تمتلكها، هي قوة أقل ما يُقال عنها إنها مُختلة ولا تملك اتجاهاً حقيقياً بنّاء، وبذلك لا بد أن ينتج عن حركتها الدمار ولا شيء غيره، فالبناء الحقيقي يحتاج إلى عقل واعٍ بكيفية توجيه القوة وأدواتها بشكل مدروس، ثم إنه من الواضح لدى غير المتابعين للمواضيع السياسية أن المنطقة مصابة باختلال ما، أو مجموعة من العلل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بخطوطها العريضة، فجميع سكان المنطقة متفقون لدرجة الجزم على أن بلادهم تعاني من الفساد وتفشي السرقات على المستوى الحكومي والاختلاسات ورداءة النظام الصحي والتعليمي وعدم كفاءة البنية التحتية.. إلى آخره من مظاهر التخلف، التي نسميها خجلاً (دولنا النامية)، ولكن مع ذلك تختلف وجهات النظر غير الاختصاصية لديهم لما يجري في المنطقة، وما سببه؟ وإلى أين يتجه؟ أما أهل الاختصاص فهم على دراية واضحة على الأقل بالأسباب التي أدت لما نحن فيه، وستجد كثيراً منهم عاجزاً عن التنبؤ بمستقبل واضح لجميع المجريات والأحداث، أو لنقول بأنهم انطلاقاً من تحليل الواقع يخرجون بنتائج معينة للمستقبل القريب ويشتركون بنظرة تشاؤمية حقيقية لما هو قادم.
بالإضافة لكل ذلك، وهذا غير خفي حتى عن غير المختصين بأن منطقتنا رغم تنوع مكوناتها المتصارعة فإن جميع هذه المكونات مرتبطة بالخارج بشكل مباشر أو غير مباشر، الخارج الإقليمي أو الخارج الدولي، وبالتالي حتى لو كانت تملك كمية من الوعي تتناسب مع حجم قوتها لن يُسمح لها بتبني أجندة وطنية، أو على الأقل تحقق مصلحة جماعة معينة، تستطيع ببساطة أن ترى أن المكونات المتصارعة مقسومة إلى شطرين واضحين، وثالث مهمش من الجميع، جماعات وأنظمة، أما الجماعات فمنها الدينية التي بات معلوماً أن الوطن والوطنية ليستا أولوية لديها، وغير الدينية التي لا تختلف عن الدينية في أولوية تحقيق مصلحة الجماعة أولاً، ثم إن أنظمة المنطقة بعضها ديني بشكل واضح وعلني وبعضها يدعي العلمانية، وهذان الشكلان من المعلوم بحسب تصنيفات عالمية أن مستوى الحريات والحقوق فيهما متدنٍ جداً، بالتالي يُصنفان كأنظمة مستبدة أو لا تمتلك الحد الأدنى من الديمقراطية التي تسمح لشعوبها بالحصول على التغيير الذي طالبت به في مرحلة ما قبل الصراعات، أي أن الخيار الوطني لديها أيضاً ليس أولوية، أما الشطر الثالث المهمش وغير المدعوم من أي جهة خارجية فاعلة فهو مجموعة القوى التقدمية التي تسعى وتناضل للوصول لشكل من أشكال الحكم الصالح والرشيد، الذي يحقق الحد الأدنى من العدالة.
إن مجموعة القوى المتصارعة تتقاطع جميعها في نقطة واضحة، وهي غياب المشروع الوطني عن رؤيتها، بالإضافة إلى أنها لا تمتلك وعياً حقيقياً أو لنقل وعي مولود ومتراكم من تجارب عدة، أما ما يحركها فهو الوعي البدائي الديني والاستبدادي وغير الوطني؛ لذلك من الطبيعي أن نحصل على هذه الكميات من الضحايا والدمار، ولكن هل الدول الحليفة أو المتحكمة بشكل جزئي أو كلي بهذه المكونات أيضاً لا تملك الوعي المناسب لإنتاج بناء سليم من جميع هذه القوى التي تعتبر ثانوية أمام القوى الدولية؟
والإجابة هنا واضحة، فالنخبة السياسية الدولية تمتلك الوعي الذي يتحكم بأغلب القوى، ولكنها لا توظفه في خدمة القضايا العادلة، ببساطة أيها السادة لأنه ليس من الضرورة أن تكون نتائج الوعي إيجابية، فالأمر مرتبط بالمعايير التي يستند إليها أي وعيّ، هل هي معايير نفعية أو أخلاقية؟ من الواضح جداً أنها معايير نفعية وليس لها أي صلة بالأخلاقيات، أما إن كانت أخلاقية فمن الضرورة أن تؤدي إلى السلام، ولأنها معايير نفعية لا تمت بصلة لأي مبدأ أخلاقي، هنا تكمن الخطورة التي نراها تتجسد في الواقع بشكل يومي.
لذلك أن تكون خارج النخبة الدولية يعني أن تخضع لمعاييرهم ومصالحهم، فإن لم تكن ذا فائدة لأي منهم، ببساطة سوف تزول عن الساحة؛ ليستبدلوك بمن هو ذو منفعة لهم، وهنا تكمن حقيقة حريتنا وحركتنا في هذه المنظومة الدولية، للأسف طبعاً، ولكن هذا هو الواقع، للنظام الدولي قواعده وعليك أن تفهمها جيداً قبل أن تقرر الدخول في اللعبة، الأمر لا يحتاج لعبقرية لفهمه، فقط انظر لدول جنوب الكوكب التي تسعى للحاق بركب دول الشمال، القوى التقدمية في الجنوب تناضل لشكل من أشكال النظام السياسي الديمقراطي والعدالة الاجتماعية التي تحقق بعض الرفاه الاقتصادي، وكيف أن بعض دول الشمال "بقصد" تسعى لتبقى دول الجنوب متخلفة وجاهلة ومحكومة من أنظمة فاسدة، المعيار نفعي بحت، من أبسط أسبابه أن يبقى الجنوب سوقاً اقتصادية لمنتجات الشمال، انطلاقاً من ذلك نستنتج القاعدة التالية "من هم دون خط القوة والوعي هم دون خط البشر".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.