يقول ماركيز: فأجابني الشاب: أنت حين تكتب كل العالم ينتظرك ليقرأ لك، أما أنا فكلهم بضعة قراء فلماذا لا أستعجل؟ يقول ماركيز عندها على لسان أحد المفكرين الذين تأثر بهم: فعلاً الكاتب حين يجلس ليكتب يختار هو بنفسه إما أن يكون كاتباً جيداً أو كاتباً رديئاً، وهذا الشاب للأسف اختار أن يكون كاتباً رديئاً.
ونحن اليوم لا نجلس لنكتب كلاماً رديئاً؛ لأننا لا نستند على شهرة وعلى سمعة مسبقة ستجعل مقروئيتنا كثيفة حتى لو كان كلامنا كغثاء السيل، فالذنب ليس ذنبنا؛ إذ إن أسماءنا لم تسبق بتلك الدال والنقطة، أو تلك الصفات المفرغة من محتواها، ولا ننتمي لأي مؤسسة تتيح لنا نشر ما نكتب بكل بساطة، ولا نريد أن نكون من هؤلاء إذا كانت الشهرة التي سننالها ليست إلا كجذوع النخل الخاوية؛ لأنك ستدرك بعد سنوات أن هموم صباك ليست سوى رغبات ساذجة، وسيصبح البحث عن هدوء مشاعرك وأحاسيسك، والسيطرة على بركانك الداخلي يسيطر على أولويات حياتك.
في ذلك الوقت سواء توافرت تلك المادة اللعينة عندك أم لم تتوفر، فالخلاص من الجبل الذي يجثو على صدرك، ليس بالسهولة التي تتوقعها، تدرك حينها أن الجحيم الدنيوي ليس كما تصوره الرسوم المتحركة، فالجحيم ليس فقراً وليس يتماً، بل الأصعب من كل هذا أنك لن تجد له مفهوماً خاصاً، ولن تستطيع تجسيده ولا تجسيمه؛ لأن مجرد التفكير فيه سيهوي بك لأعماقه، بل والأمرّ من كل هذا أن المشكلة الجوهرية لا تعنيك أنت في شخصك، تدرك حينها أن الخوف الحقيقي ليس الذي ندركه بحواسنا بل الخوف الذي لا نعرف مصدره.
لهذا نحن نكتب لتكتشف ذواتنا لا لننظر على العامة بتلك الألفاظ المفخمة التي لا تغير من واقعنا شيئاً، فلا يجب أن تفكر فقط لتكون موجوداً، بل يجب أن تكتب لتعيش كما تقول نوال السعداوي، وحتى إن كانت حياتنا لا تستحق أن نجهد أنفسنا في الكتابة عنها لسذاجتها وتفاهتها كما يعتقد البعض، فنحن دائماً نتحرى قول ماركيز: ليست الحياة ما يعيشه الإنسان بل ما يتذكره وكيف يرويه؛ لهذا فبرغم أننا لم نعِش البؤس والشقاء كما عاشه آباؤنا ولم نسر الكيلومترات حتى نصل لمدارسنا، ولم ندرس على ضوء شمعة وحيدة، فمن حقنا أن نكتب لأن مقولة: من ألم المعاناة يولد الإبداع، انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد.
بل الإبداع اليوم يولد من رحم الحرية التي نفتقرها نحن في أوطاننا، والتي وجدها نعيمة وجبران وأبو ماضي في أقصى الأرض، فخطوا أروع الكتابات والأشعار التي مهدت لظهور نوع جديد من الكتابة والنسج الأدبي الرائع، لهذا كانوا دائماً يردون على منتقديهم: لكم لغتكم ولنا لغتنا، لكم سيبويه ولنا لغة الطفل الصغير الذي يحن لصدر أمه، ولهذا كانوا يقولون أعطني أذناً أعطِك أدباً.
ففي الجامعة أين يجلس حين الأستاذ في منصته ويبدأ بالتنظير لساعات من المستحيل أن تتعلم هناك شروط الكتابة كما يقول ماركيز؛ لأن الإبداع لو ابتدعنا له شروطاً فمن الأفضل أن نلغي عنه تلك الفنية والجمالية والإبداعية؛ لأنه حينها من المستحيل أن يجد داوود مَن يقرأ عليه زابوره.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.