!احكو لأبنائكم عن صلاح الدين الأيوبي وعن الخنساء

مرت السنوات وجئت إلى تركيا وقابلت عربا كثيرة من مختلف الأمصار، قابلت فلسطينيين من الضفة، الخليل وغزة، سوريين من حمص، الشام، حما ومن حلب، عراقيين، مصريين من كل الأقطاب، تونسيين، جزائريين، خليجيين، قابلت ناسا كثر تعرفت على ثقافات عديدة درست الكثير حتى أفهم الوضع في عالمنا العربي، وسع أفقي الفكري والتفكيري. فأصبحت أفرق بين العرب من لهجاتهم وأشكالهم فأعرف أصولهم قبل أن يعرفوني بأنفسهم.

عربي بوست
تم النشر: 2015/10/02 الساعة 05:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/10/02 الساعة 05:52 بتوقيت غرينتش

ذات يوم من أيام 2003 يعني قبل أكثر من عشر سنوات كنت في آخر فصل دراسي في المستوى الإبتدائي، آنذاك كنا متابعين يوميا أحداث العراق. كنت صغيرة آنذاك لا أفهم معنى أسلحة الدمار الشامل، ولا أفقه في السياسة كل ما كنت أفهمه هو أن جورج بوش يقيم حربا ضد العراقيين وبما أن العراق جزء من أمة الإسلام فكنت أحس بالحزن كلما فتحنا قناة الجزيرة ونحن نسمع أعداد الضحايا في تزايد وانفجارات في كل مكان، وكان حزني كبيرا عندما شاهدنا خبر استشهاد صحفي الجزيرة طارق أيوب الذي كان ينقل لنا الحدث فكنت أحسبه فردا من العائلة حتى أعلن محمد كريشان عن الخبر و بكيت آنذاك.
كنت أذهب إلى المدرسة جدا حزينة وأجد رفيقاتي في الصف يلعبن ويمرحن وكأن شيئا لم يحدث فكنت أحس بالغيظ الشديد و أنا ذات ال 12 عاما أحمل على ظهري هموم الدنيا وهموم الأمة. أضع على كتفي شالا يشبه الكوفية الفلسطينية حتى أعبر عن التضامن وإذا ما سألني أحد حتى وإن كنت لا أعرف الإجابة فإني أخبره أن المسلمين يقتلون من طرف الأمريكان وأذكر له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة التي هي كالجسد الواحد وأنه يجب علينا التضامن وما أفعله هو أضعف الإيمان. كنت لا أبالي بما يقول الناس بأنني رجعية ومتخلفة ولا أواكب العصر بل أمضي في طريقي واثقة الخطى لا يهمني ما يقوله الناس.

كما ذكرت فإني لم أكن أفهم في السياسة ولا أفقه في علوم الحرب ولا أعرف ما هي طائرات F16 ولا أدري ما الحرب لأني عمري ما حضرت حربا ولا شاهدت ليلا سماء عوض أن تملأ بالنجوم ملئت بالقنابل حتى أصحبت حمراء بلون الدم الذي يسيل في الأرض. كنت أرى في منامي أطفال العراق يكادون لا يجدون مأوى يلجأون إليه وبطونهم تكاد تتقطع من كثرة الجوع، كنت كلما شاهدت شيئا على شاشة التلفزيون أحاول أن أخبر به كل الذين أعرفهم حتى معلمتي التي كانت تنهرني وتطلب مني ألا أشاهد الأخبار لأنها للكبار وليست للأطفال لكني كنت أعتبر نفسي أكبر منها وعيا وهي في نظري كانت الطفل.

كنت أحاول جاهدة أن أقاطع كل المنتوجات الأمريكية أو الممولة من طرف أمريكا، لم أكن أرتاد محلات ماكدونالدز ولا أشرب الكوكاكولا بغض النظر عن ضرها بالصحة إلا أنني كنت مؤمنة إيمانا يقينا بأني لو شربت من قنينة الكوكاكولا فكأنما شربت من دم أطفال المسلمين الذين يموتون في تلك البقاع التي لا أعرف عنها شيئا سوى أن أهلها يتكلمون لهجة تختلف عن لهجتنا ويأكلون أكلنا لا يشبه أكلنا.

مرت السنوات وجئت إلى تركيا وقابلت عربا كثيرة من مختلف الأمصار، قابلت فلسطينيين من الضفة، الخليل وغزة، سوريين من حمص، الشام، حما ومن حلب، عراقيين، مصريين من كل الأقطاب، تونسيين، جزائريين، خليجيين، قابلت ناسا كثر تعرفت على ثقافات عديدة درست الكثير حتى أفهم الوضع في عالمنا العربي، وسع أفقي الفكري والتفكيري. فأصبحت أفرق بين العرب من لهجاتهم وأشكالهم فأعرف أصولهم قبل أن يعرفوني بأنفسهم.
ذات ليلة شتاء باردة من أيام إسطنبول خرجت مع بعض الأصدقاء إلى أقرب مركز تجاري للجامعة من العرب لنتعشى ونتناقش في بعض الأمور، فإذا بي أراهم يشربون من قائمة المشروبات المحرمة بالنسبة لي ويأكلون من قائمة المطاعم المتواجدة في قائمتي السوداء، أصابني الذعر وبكيت من الداخل وظليت طول الوقت ساكتة لا أنطق بكلمة حتى لا أجرح من كانو معي على الطاولة بكلامي القاسي. و كنت جدا غير مرتاحة في المجلس الذي كنت فيه وأتساءل كيف بهؤلاء الناس الذين عاشوا الحرب وشافوا الويلات في بلادهم يتضامنون مع عدوهم باقتنائهم أطعمتهم وأشربتهم.

ظللت أفكر في هذا الأمر أياما، لا أنام الليل لأن ضميري كان يؤنبني وكنت أتحرق من الداخل. لكني بعد أشهر معدودة وبعد أن تعلمت قليلا من اللغة التركية التي ساعدتني في التواصل مع بعض الأتراك "المتدينين"، اكتشفت مع الوقت أنهم يعرفون العرب بالإسلام وأن كل من هو عربي عليه أن يتحلى بأخلاق الإسلام وأنهم ينصدمون جدا لما يروا عربية لا ترتدي الحجاب أو عربيا لا يصلي، فهمت آنذاك أنني أعيش في دائرة مغلقة جدا وأن التغيير لا يأتي فقط بالمقاطعة ولكنه يأتي بأشياء أخرى أيضا. فهمت أيضا أن الناس تختلف وأن العرب طوائف وقبائل وأننا لا نعيش على قيم الإسلام وإنما على الثقافة الغربية.

كان أبي يحدثنا عن أمجاد المسلمين في الماضي، يحدثنا عن صلاح الدين الأيوبي، عن أسماء، عن الخنساء، عن أقوياء المسلمين خلقا وخلقا الذين عاشوا من أجل الإسلام وماتوا من أجله. فكبر فينا الوطن وكبرت فينا كل معاني التضحية والفداء والتضامن، حتى أصبح بالنسبة لنا مفهوم الوطن يجمع كل بلاد المسلمين وليس فقط البقعة التي كبرنا فيها.

علموا أبناءكم كيف يصنعوا الأوطان ولا يتكلوا على صناعات الأوطان الأخرى التي غزتنا ثقافيا و فكريا فأصبح ظاهرنا عربيا وباطنا أشياء أخرى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد