(1)
بعد الاعتراف بالإسلام في بلجيكا أصبح من حق الطلبة المسلمين في المدارس هنا – إذا زاد عددهم عن خمسة طلاب – أن يطلبوا مدرساً لمادة الدين الإسلامي وعلى المدارس أن تستجيب، فإن كانوا أقل من خمسة فإنهم يدرسون مادة تسمى "الأخلاق" مع طلبة الأديان الأخرى الأقل من خمسة أو الطلبة من أسر ملحدة! ولأن في مدرسة ابني عدداً كبيراً من المسلمين جلبت لهم المدرسة مدرساً للدين الإسلامي.
وكما فهمت كانت المدرسة قديماً تتصل بالهيئة العليا لمسلمي بلجيكا، وهذه تبعث مدرساً ذكراً، يكون في الغالب مغربياً ملتحياً.
وإلى جانب تدريس الدين يهتم أيضاً بتعليم اللغة العربية، المشكلة أن هذا المدرس كان يتغير كل سنة أو أن الهيئة كانت تتأخر أحياناً في إرسال المدرس، وعندما يمرض لا يأتي أحد مكانه فيظل الطلبة في حوش المدرسة أو في المكتبة دون مدرس وهذا ممنوع.
وبعد الأحداث الإرهابية في باريس ثم بروكسل زِيد سبب جديد جعل المدرسة تتولى الأمر بنفسها فأحضرت مُدرسة دين إسلامي للأولاد.
الحقيقة الولد كان مبسوطاً أكثر من هذه المُدرسة الجديدة، وكان يفهم منها بشكل أفضل، فكلما اختبرته وجدته يعرف الأساسيات بشكل دقيق.
وكانت المدرسة تعطيهم ملخصات ممتازة – بالفرنسية – للموضوعات الإسلامية التي يدرسونها.
وبدأت أنا نفسي أعجب بما تفعله مُدرسة الدين وكونت في ذهني صورة ما لشخصيتها وهيئتها، لكن الولد أخبرني بأنها لا ترتدي حجاباً.
وعندما ذهبت للمدرسة في لقاء الآباء ورأيت مدرسة الدين دهشت لجمالها الفاتن وشعرها الأمازيغي المجنون ولعطرها الذي يعبق به المكان ولفخامة وجمال ملابسها التي تجاري فيها موضة العام التي يغلب عليها اللونان الأصفر والأخضر الباهت.
وكان يمكنك أيضاً رؤية نظرات الانبهار والحسد في عيون الأخريات والآخرين، وعرفت أن اسمها ليلى فتذكرت قول المجنون:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ** وإن كنت من ليلى على اليأس طاويا
وتصورت نفسي أقف خطيباً في الجمع وأقول بصوت جهوري "يا قوم، أبمثل هذه تريدون محاربة الإرهاب؟! إنها الإرهاب نفسه!".
(2)
وفي أحد الأيام استيقظت صباحاً في أمان الله، وبعد الطقوس المعتادة دخلت المطبخ وأخذت خوخة ضخمة مفلطحة فغسلتها وأخذت منها قضمة عظيمة وبدأت أمضغ بلذة فرآني ابني، وقال: "هل نسيت؟" فبلعت ما في فمي، وقلت له: "نسيت ماذا؟" وقبل أن يجيب أخذت قضمة أخرى عظيمة أيضاً. فقال: "أنت مش صائم النهارده؟!" فبلعت ما في فمي وقلت له: "ولماذا ينبغي أن أصوم اليوم؟" ثم أخذت قضمة عظيمة قضيت بها على الخوخة، وبينما أمضغ بلذة وأنظر لبذرة الخوخة في يدي قال الولد: "صوم يوم عرفة!" وهنا بالضبط شعرت وكأن أحدهم لكمني في ظهري بقوة فبلعت ما في فمي دون هضم، وقلت: "يا خبر! لو قلت لي بالأمس، لو ذكرتني بالليل، لصمت اليوم!".
وهنا انتهزت نفسي الأمارة الفرصة وبدأت تؤنبني كعادتها، وتقول لي: "أنت لا قدوة ولا يحزنون!"، فغضبت جداً من تلك النفس اللعينة التي لا تترك أي فرصة لتأنيبي.
ولما لاحظ الولد غضبي من نفسي وحزني لحالي قال: "لم أفكر في أنك ستنسى، ويمكن أن تكمل الصيام". فقلت له: "شكراً على هذه الفتوى الجميلة، سأفكر فيها، ولكن الآن لنخرج نمشي ونجري قليلاً في الحديقة المجاورة".
وعندما بدأ يلبس حذاءه الرياضي قالت له أمه: "ألم تقل إنك لن تجري اليوم لأنك صائم؟!" وما إن سمعت بهذا حتى شعرت بدوخة فقفزت نفسي الأمارة مرة أخرى وأمام عيني وجهت عدة لكمات سريعة لضميري الذي شعر بالدوخة نفسها فأغمضت عيني ونفضت رأسي بقوة، وقلت للولد: "أنت صائم الآن وأنا يا حول الله يا رب!" فقال: "سأجرب وإن جعت جداً سآكل". فسألته: "مَن الذي فكرك بصوم يوم عرفة؟"، فقال: "مُدرسة الدين أول أمس"، فقلت: "مُدرسة الدين اللي ع الموضة والتي لا نثق في معرفتها؟". قال: "نعم! ولكنها تعرف الكثير ولا تنسى أبداً"، فقلت: "لا حول ولا قوة إلا بالله، كل الناس أفقه منك يا عبد السلام!"، ومن ساعتها يا حضرات وأنا ضميري وارم بشكل مؤلم، وبالتأكيد تفهمون السبب فليتني ما عرفت.
(3)
وفي الأسبوع الماضي فقط طلبت مُدرسة الدين من فصل ابني رؤية فيلم "الرسالة"، النسخة الفرنسية، وكتابة سبعة أسئلة وإجاباتها عن موضوع الفيلم وشخصياته، وكتبت لهم العنوان الإلكتروني للفيلم. وبعدها أخبرني ابني بالأمر، وطلب أن نرى الفيلم معاً لأساعده، ففرحت بالأمر وادعيت أنني لا أعرف الفيلم، وجميل أننا سنراه معاً، وجلسنا لنرى الفيلم معاً ولم نُعر معابسات الولد الأصغر أي اهتمام حتى ملّ المسكين وذهب للعب مع أمه، وواصلنا نحن رؤية الفيلم وتأكد لي مرة أخرى أن عبد الله غيث مثل دور حمزة (رضي الله عنه) أفضل من أنتوني كوين، وكان الولد كلما أعجبه مشهد أو ألغز عليه يوقف الفيلم ونتناقش ثم يكتب سؤالاً وجوابه حتى انتهينا من الفيلم والأسئلة السبعة وإجاباتها.
وهنا صارحني الولد بأنه رأى الفيلم بمفرده فلما أعجبه أراد أن يراه معي، وصارحته بأنني أعرف الفيلم وأكاد أحفظه عن ظهر قلب قبل أن يولد هو، ولكنني أحببت أن أراه معه، وفاضت بنا مشاعر الأبوة والبنوة فحضنا بعضنا حضناً كبيراً قد الجبل، وبعد البوسة والحضن خضنا حواراً معرفياً على مستوى عالٍ فقال الولد:
– عندما ينظر حمزة إلينا ويتكلم فإنه يكلم النبي (صلى الله عليه وسلم).
* ملاحظة جيدة، أول مرة آخد بالي منها، برافو عليك!
– لكن لماذا لا يظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما يكلمه أحدهم؟!
* لأنه توجد فتوى من الأزهر بعدم تمثيل النبي وصحابته.
– لكن حمزة من الصحابة وزيد من الصحابة وكل المسلمين في الفيلم من الصحابة فلماذا ظهروا؟!
* لأننا لو سمعنا كلام الأزهر لن يظهر في الفيلم إلا أبو جهل والكفار وهم يحاربون الهواء ويجرون كالمجانين في الصحراء!
– ههههه بتوع الأزهر ناس طيبين بالفعل!
* حتى الأقباط يمنعون تصوير المسيح والسيدة مريم في الأفلام.
– وهؤلاء طيبين كمان!
* لماذا؟
– لأن السيدة مريم ليست النبي ولا من الصحابة فلماذا يمنعونها؟
* هل تعرف من هم الأقباط؟
– أكيد مسلمين مثلنا ومثل الشيعة والسنة!
* إيه؟! أنت عمرك شفت حد من الشيعة؟
– لا.
* وهل تعرف أحداً من السنة؟
– أيضاً لا.
* طيب قوم اغسل أسنانك حتى تنام.
– …..
* بكرة سنكمل الكلام أو اسأل مدرسة الدين فهذا أفضل!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.