بيع الأوهام في صناعة الأفلام

هذه الزاوية يا سادة هي سوق مفتوح للجميع مقابل رسم اشتراك يبلغ 85 يورو فقط، على أن يستوفي الفيلم أقل الشروط الفنية حتى يُقبل للعرض في مكتبة الفيديو على هامش المهرجان، ولا يتم عرضها على شاشة سينما- مثل الأفلام الرئيسية المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان-وإنما يمكن مشاهدتها بشكل فردي لمن يرغب من زوار السوق أو المنتجين. ولا تعتبر هذه المشاركة بأي حال من الأحوال "إنجازا سينمائيا"

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/04 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/04 الساعة 05:43 بتوقيت غرينتش

يبعث لي ذات مرة أحد الأصدقاء إعلانا لدورة تدريبية في "صناعة الأفلام" يقدمها أحد المخرجين، يسألني عن رأيي، فكان أول سؤال لي هو: ماذا تعرف عن المخرج؟ وهل شاهدت أفلاما له؟ فأجابني: لا، ولكن المخرج معروف، ولديه آلاف المعجبين على صفحات التواصل الاجتماعي!

لم يكلف صديقي نفسه عناء البحث عن سيرة المخرج المهنية، لكنه قرأ على صفحات المدرب سيرته وفيها الكثير من الإنجازات الوهمية مثل المشاركة في مهرجانات لم يسمع بها أحد، أو الفوز بجوائز بسيطة يُسوّقها على أنها جوائز دولية.. قبل أن يتدارك صديقي الأمر لاحقا ويسأل عنه، وكانت إجابتي له: شاهد أفلامه قبل أن تحكم عليه، ومن ثم اطلب برنامج التدريب، مع الإشارة له أن مثل هذه الدورات لن تصنع مخرجا في أيام قليلة.

لاحقا لاحظتُ انتشار دورات "صناعة الأفلام" بشكل رائج وفوضوي، مع شعارات رنانة ومصطلحات مغرية تجذب الشباب الراغبين بدخول هذا المجال وكلمة السحر هي "السينما". ويكفي أن يعرف المُدرب نفسه أنه "مخرج سينمائي" حتى لو لم يشاهد في حياته كاميرا سينمائية! ولم يشهد تصوير لقطة سينمائية واحدة!

ويستغل الكثير من هؤلاء المخرجين "الدارجين" جهل فئات معينة بصناعة الأفلام، وضعف الثقافة السينمائية (أو الفيلمية-إن صح التعبير) لدى هذه الفئات، لتقديم أنفسهم كخبراء سينمائيين، فيكسبون شهرة فقاعية يساهم في نفخها المعجبون الذين يكيلون المدح والإعجاب لهم، ويقع كثيرون فريسة لدعاياتهم المزيفة، وإنجازاتهم الوهمية.

المشكلة الأكبر تكمن في اشتراك بعض وسائل الإعلام في الترويج لمثل هؤلاء- سواء عن قصد أو غير قصد- فلا يكلف الصحفي نفسه أو المحرر المسؤول عن الفن والسينما التحقق من صحة هذه الإنجازات، والسؤال هنا: هل الصحفيون مشتركون أم مخدوعون أم جاهلون؟

من الأمثلة الواضحة ما يروجه مخرجون حول مشاركاتهم في زاوية الفيلم القصير في مهرجان كان السينمائي، فيملؤون الدنيا ضجيجا عنوانه الوصول إلى "كان" والعالمية، ويتهافت عليهم المعجبون والصحفيون من كل حدب وصوب لإجراء المقابلات التلفزيونية ونشر المواد الصحفية، دون تكلف عناء البحث عما تعنيه المشاركة في "زاوية الأفلام القصيرة". ومن المستغرب أن تنقل وسائل إعلام بل وفضائيات كبيرة وصحف مرموقة أخبار مشاركتهم على أنها إنجاز سينمائي عربي يجب الاحتفاء به، دون التمييز بأن هذه المشاركة لا علاقة لها بالمسابقة الرسمية للمهرجان، ولا تُنافس على أي لقب يذكر.

لإجراء تجربة عملية، قمت بإرسال فيلم لي تم تصويره ومونتاجه بالموبايل إلى "زاوية الأفلام القصيرة في كان"٬ حيث تقام فعاليات المهرجان خلال شهر مايو من العام الحالي٬ ودفعت الرسوم، وبالفعل وصلتني رسالة القبول بعد أيام قليلة، وفيها تنويه بأن المشاركة لا تعني أن الفيلم تم قبوله في مسابقة الأفلام القصيرة في المهرجان، ولكن البعض يتجاهل هذا الجزء من الرسالة وينشر فقط الجزء الأول الذي يبلغه بقبول الفيلم، وعليه يبني أمجاده.

هذه الزاوية يا سادة هي سوق مفتوح للجميع مقابل رسم اشتراك يبلغ 85 يورو فقط، على أن يستوفي الفيلم أقل الشروط الفنية حتى يُقبل للعرض في مكتبة الفيديو على هامش المهرجان، ولا يتم عرضها على شاشة سينما- مثل الأفلام الرئيسية المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان-وإنما يمكن مشاهدتها بشكل فردي لمن يرغب من زوار السوق أو المنتجين. ولا تعتبر هذه المشاركة بأي حال من الأحوال "إنجازا سينمائيا". ولا يجوز أخلاقيا القول بأن الفيلم شارك في "كان"، على أن هذا لا ينفي الفائدة التسويقية للمشاركة إن وُضعت في سياقها الصحيح. وقد بلغ عدد الأفلام المشاركة هذا العام -حتى لحظة كتابة هذه التدوينة- 1546 فيلما، منها أكثر من سبعين فيلما عربياً.

الوهم يمتد إلى إبراز أسماء بعض المهرجانات البسيطة والصغيرة، فيكفي أن يذكر مخرجٌ اسم مهرجان منها، أو يختلق اسم فعالية ثم يتبعه بالقول "وهو من أهم مهرجانات الأفلام في العالم" حتى يشعرنا بعالميته!

إحدى الحيل التي تسهّل بيع الوهم في صناعة الأفلام تبني قضية إنسانية والتسلق عليها، فما بالنا إذا كانت القضية عن فلسطين مثلا؟! إذ يُوهم بعض المخرجين الناس بأنهم وحدهم أخذوا على عاتقهم نشر القضية سينمائياً، مع تغافل متعمد من قِبلهم لتاريخ السينما الفلسطينية الطويل والذي بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتجاهل مشاركة وفوز العديد من الأفلام الفلسطينية بكبرى المهرجانات في العالم، من أجل الترويج والتسويق الشخصي.

كل ما سبق يبدو أخف وطأة مقارنة بمشاهدة الإنتاج الفعلي لبائعي الوهم- إن وُجد- فبعض أفلامهم تبدو أشبه بكنوز دفينة يكتبون عنها ولا يشاهدها أحد! وإذا قُدّر لبعض أعمالهم النشر فيمكن لمحبي الأفلام والسينما ملاحظة أنها مجرد "ثرثرة بصرية" تغيب عنها لغة الفيلم الحقيقية، لم تكن لتنجز لولا توفر تقنيات التصوير والمونتاج وسهولة الحصول عليها من قبل الجميع. وكأن الفيلم هو مُنتج بصري يخاطب العين لا العقل! يكفي بالنسبة إليهم تصوير بعض اللقطات ثم جمعها ومونتاجها والقول للمُغرر بهم بأن ما تشاهدونه هو فيلم عظيم، دون أن يكون لديهم تجارب حقيقية خاضوا فيها غمار إنتاج وإخراج الأفلام بشكل مهني واحترافي، يوهمون أنفسهم ومعجبيهم والمشتركين في دوراتهم بأن الطريق مزروع بالورود.. ورسوم التسجيل.

نتاجا لهذه الدورات قد نشاهد أفلاما فيها صورة جيدة من الناحية التقنية ولكنها فارغة من المضمون وتفتقر إلى الحبكة وتبنى على سيناريوهات هزيلة أو غير مفهومة. وصار معظم ما نراه في المحصلة مجرد فوضى، نسمع فيها جعجة ولا نرى طحنا، نسمع خُطبا ومواعظ عن السينما ولا نرى أفلاما ذات قيمة.

وسط هذه الفوضى ما يزال هناك من يعمل بصمت ويُقدم أفلاما حقيقية تجد طريقها للعرض على شاشات كبرى الفضائيات، ومنها ما يجد طريقه إلى المهرجانات العربية والدولية ويحقق الجوائز، وفي المقابل نجد أفلاما رديئة تُعرض في محافل عربية وإذا انتقدها أحد المشاهدين يرد عليه المخرج هارباً من مواجهة حقيقة فيلمه الركيك فنياً: فيلمي يخاطب "الغرب" وبالتالي من الصعب أن يفهم المشاهدون "العرب" الرسائل المخفية في تفاصيله!

– تم نشر هذه التدوينة في موقع مدونات الجزيرة

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد