رفقاً بأمهاتنا

ما إن أنهت كلامها حتى سقطت إحدى العَبرات على وجنتيها، التي كانت قد بدأت تتجمع في مقلتيها منذ أن استهلت كلامها، وضمتني إلى صدرها بقوة ثم انهارت باكية.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/19 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/19 الساعة 04:09 بتوقيت غرينتش

استوقفتني نظراتها الحزينة التائهة التي أطلقت لها العنان صوب باب رياض المسنين، التي أصبحت تقطنه منذ أن هرمت واعوج ظهرها، فتركها ابنها الوحيد هناك، ومضى بحثاً منه عن عيشة هنيئة، رفقة زوجته وأبنائه، وأنَّى له ذلك!

نظرتها تلك كانت تتوارى خلفها قصص وحكايات مؤلمة تحتفظ بها لنفسها، ولا علم لأحد بها، وجهها الشاحب، وعيناها البائستان وعلامات الحزن التي كانت قد غطت ملامحها، وانتشلت منها الحياة عنوة، كانت كفيلة بأن تهز قلوب البشرية جمعاء.

اقتربت منها بخطوات متثاقلة ثم رسمت قبلة على جبينها وسألتها عن حالها، وكم أخجلني ردها الجميل ذاك، حين أطلقت تنهيدة عميقة تلخص مدى القهر التي تشعر به، ثم أجابتني بصوت جميل، حنون يخضع الحجر لرقته، قائلة: بخير الحمد لله.. ثم رفعت رأسها واستطردت وهي تنظر إلى عيني وكأنها تتوسل إليَّ: "فقط اشتقت لابني الوحيد فمنذ أن أحضرني إلى هنا لم يأتِ لزيارتي.. إن الأيام تمضي يا ابنتي، تمضي بسرعة البرق، وأنا لم أرَه منذ ذلك الحين، أخشى أن يخطفني الموت ذات يوم وأنا لم أطفئ نار الشوق التي تحرقني ولو بنظرة أخيرة..".

ما إن أنهت كلامها حتى سقطت إحدى العَبرات على وجنتيها، التي كانت قد بدأت تتجمع في مقلتيها منذ أن استهلت كلامها، وضمتني إلى صدرها بقوة ثم انهارت باكية.

"آه يا أمي لو تعلمين كم هي غالية دموعك" همست لنفسي وأنا أكفكف دموعها بيدي، وشعرت بالكلمات تتلعثم وسط حنجرتي، شعرت بالضعف والقهر ونظرت إلى المساعدة التي كانت ترافقها فأخبرتني أنها تنتظره في كل يوم منذ أن تشرق الشمس إلى أن تغيب، علَّ قلبه يرق فيفاجئها بمجيئه، لكنه منذ أن أحضرها إلى هنا ونزولاً عند رغبة زوجته كما جاء على لسانه، لم يكلف نفسه حتى باتصال هاتفي للاطمنان على حالها.

إن هذه الأم تعيش في دوامة معاناة، جراء اشتياقها لفلذة كبدها.. وليست وحدها بل هناك الكثيرات، وقد أخبرتني المساعدة أيضاً أن هذه المرأة فقدت زوجها بعد أن أنجبت ابنها، فكانت امرأة يضرب بها المثل في حيّها، وكانت تلقب بالمرأة العظيمة، لعبت دور الرجل والمرأة في آن واحد، سهرت على تربيته وتعليمه وما إن بلغت من العمر عتياً حتى ألقى بها هناك، تخلص منها في رمشة عين ومضى.. والغريب أن هذه الأم الرائعة رغم أن ابنها قد تخلى عنها فهي لم تضجر من ذلك، هي تعاني من اشتياقها له فحسب.. فأين أنت؟ هل رميت برجولتك في القاع يا سيدي؟!

هي لم تذكر أنها غاضبة منك، ولم تشتكِ من تخليك عنها، اشتكت فقط من حنينها لك ورغبتها في رؤيتك قبل أن تدركها المنية.. بربك متى كنت إنساناً؟

أُماه ما أطيب قلبك.. وأين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد