ملاجئ

بقي أن أتطرق إلى محور جدُّ مهم في حاضرنا وكذلك المستقبل، وهو أن الحاضر المرير الذي أعاني أنا وأنت وهو وهي منه، ما هو إلا نتاج وحصاد ما زرع أمس بأيدينا، يُحتّم هذا أن نتقن ونحسن الذي نزرع مستقبلاً، درءاً لمفاسد أكبر، فعنده وحده الملاجئ.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/28 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/28 الساعة 03:50 بتوقيت غرينتش

علمني ما بهذه الحياة وما مررت به من حوادث خاصة كانت أم عامة، صغيرة هي أم كبيرة، أن اعتراضي على الحق عند نزول قدره وحدوث أمره هو موت التوكل عليه؛ لأن أقدار الله التي تعصف بصغيرنا وكبيرنا من هنا وهناك تتناسب طردياً مع قدر ما بالنفس من إيمان وضعف، فالذي يأخذ الناس يميناً وشمالاً، شرقا فغرباً، سببه الرئيسي والأكبر ما هو إلا تقصيرهم تجاه مسبب الأسباب، وتجاهل بل وإقصاء فكرة أنه من بيده أمر الذرة والمجرة، هو إن شاء غيّر ما بِنَا من مآسٍ بقدر رمشة جفن أو طرفة عين، زِد على ذلك أن ملائكته تتعجب من وقاحة بعض البشر، بل إنها لا تستوعب كثرة كذبهم في أحوالهم، تستغرب كذبهم في توحيدهم، نفاقهم في المعاملات بينهم، كل حديثهم في الغلاء والرخص، وأحوال السلاطين والأغنياء، والمجيء والذهاب، أكل فلان، لبس فلان، تزوج فلان، افتقر فلان، درس وتعلم وحصد وفاز واقتنى واشترى وسافر وما بفلان.

وكما عُلِّمنا وتعلمنا أنّ كلمات اللسان وحدها لا تغير الواقع الحربي إلى أمان، ومفردات بني الإنسان لا تُبدِّل إلى السلام من الطغيان، لا بد أن ندرك أن العمل والجهد والإخلاص بها وحدها الذي يغير، وأول العمل إصلاح النفس، وأول الجَهد جُهد وجهاد النفس وجهاً لوجه في ملاقاة شهواتها وغرائزها التي تحط من قيمتها وتصنع من عاليها سافلاً وتحوّل من قمتها قعراً.

ما يغلب على النفس البشرية معظم الوقت شر في شر، فإن هي جوهدت وكُبّلت أصبحت كلها خيراً في خير، ليست هذه الكلمات سوى خطوة تجاه نهضة مجتمعية تربوية شاملة إن عُمِل بها ولم تبقَ حبراً يحتضن ورقة، وليكون على أقل تقدير من يأتي من بعد جيلنا يعيش بكرامة وسلام، يعيش بمحبة ووئام، يعيش بشجاعة وبُسل وعطاء والتزام.

كان فيما مضى من الوقت قد دُنِّسَ الأقصى المبارك، فعمّه الظلام والظلم، وحُوِّلت قبة الصخرة فيه إلى كنيسة، وقُلبَ المصلى المرواني هناك إلى إسطبل للخيل، وجُعِلَ جامعه الكبير فندقاً لفرسان أوروبا، قُتِلَ عشرات الآلاف في ساحته، فيا ترى ما الذي فعله العرب حِينَئِذٍ؟ نعم لقد شخّصوا الداء، وحددوا الدواء الذي ليس من جرعاته الاعتراض على الأقدار، وبدأ العلاج الذي كان لا مجرد شتم مَن فعل ما فعل مِن قتل وخراب ودمار، ولم يكن مجرد دعاء عليهم من بعيد، رغم ما للدعاء من فعل يجعل المستحيل سهلاً في متناولنا.

ولم يكن أيضا دموع الحسرة أو بكائيات الألسنة أو مراثي الشعراء، ولا أغاني يُتغنى بها صباح مساء، ولا لوم القادة وأصحاب الشأن، ولا التزمُّتَ بفكرة مؤامرة عالمية من دولة أو حكومة أو منظمة أو غيرها، ولا طلب تغيير العالم دون تغيير النفس أولاً، بل كان الدواء مواجهة النفس وتهذيبها ثم تغييرها، والوقوف بوجه شيطانها الذي بنى حدوداً وحصوناً بينها وبين بارئها، وعندما حرك أسلافنا ما بداخلهم قبل تحريك العالم، اصطفى الله أنفسهم نتاج ذلك ومنحها شرف المشاركة في المهمة المقدسة (التحرير).

هذا كله يرجع إلى نشأة من سبقنا بقليل أو كثير من السنين، الذي تربى على هذه الدروس وتعلم الأخذ بالأسباب، وفطن إلى أن الألف ميل تبدأ بخطوة، وأيقن أن أول الغيث قطرة، وغادر الكسل الذي أقعد الجيل هذا حد الشلل، حتى تشبعت بالعجز كل ذرة من جسده، فكوّن ذلك الجيل فيما بعد الصفوة التي أنجبت صلاح الدين، أما نحن فعلينا أن نتربى على ما تربَّوا عليه، ونتشرب ما تشربوه، حتى ندرك ما أدركوه.

بقي أن أتطرق إلى محور جدُّ مهم في حاضرنا وكذلك المستقبل، وهو أن الحاضر المرير الذي أعاني أنا وأنت وهو وهي منه، ما هو إلا نتاج وحصاد ما زرع أمس بأيدينا، يُحتّم هذا أن نتقن ونحسن الذي نزرع مستقبلاً، درءاً لمفاسد أكبر، فعنده وحده الملاجئ.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد