حين كتبت مقالتي عن صعود (صادق خان) المسلم إلى سدة عمدة لبنان، اقتبست بنت أختي التي تعيش في الأردن عبارتي "أنه تربى في بريطانيا العظمى، فأصبح خلية في هذا الجسم الحيوي، وهذا يحكي مأساة موت الأمم والمجتمعات التي تتحول إلى مواد أولية تأكلها مجتمعات قوية حية"، فأرسلت من الشرق الأوسط المنكوب المنكود هذه العبارة الحزينة تقول فيها "هون بالأردن اللي ما عنده واسطة لا يتعب ولا يشقى، يا إما تكون من عشائر الأردن، اللي عندها سلطة ونفوذ، عشان تشتغل بالحكومة، أو تكون فلسطيني عشان تشتغل بالقطاع الخاص"، انتهى الاقتباس.
ولكن السؤال الفلسفي عموماً هو عن "الهامش الاجتماعي والأقدار الفردية"، سواء كان في الأردن أو جزيرة كامشتكا، عند الصرب أو بوتسوانا.
في الواقع نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البيولوجيا، مربوطين الى سلاسل النسبية للبعد الرابع: الزمن، أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع، جاء في محكم التنزيل: ""نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ۖ" [ سورة الإنسان: آية 28 ]
ندخل أجسادنا فنتسربل فيها، محكومين بالجينات، تشكل قدرنا من صحة ومرض وجمال وتشوه وقصر عمر أو امتداده إلى الخرف والزهايمر؟
(الجينات) الشيفرة السرية للخلق تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر، من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت مع كل انقسام كروموسومي.
الجينات في الخلايا تحدد العمر وساعة الموت، والاستعداد لمرض السكر، وخلل فقر الدم المنجلي، والميل للتسرطن كما فعلت الممثلة أنجلينا جولي فقطعت ثدييها خوفاً من السرطان الذي افترس أمها ولم يعقب.
نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني، في قدر لا فكاك منه، يطحننا المرض، وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نتنفس وإلا اختنقنا، أن نأكل ونشرب وإلا هلكنا، وأن نمارس الجنس وإلا انقرضنا؛ فالطبيعة تضحك علينا، وتعطينا عسل الجنس مقابل الإنجاب، فهي تطحن الأفراد بكل شهوة، وتحرص على النوع بعناد وإصرار، كما يقول الفيلسوف شوبنهاور، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية، فلا نستطيع الانتقال بسرعة الضوء، في استحالة رباعية يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لانهائية وتوقف كامل في مربع الزمن.
نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا، في أغلال إلى الأذقان فهم مقمحون.
نحن نأتي إلى الحياة دون إرادتنا، ونخرج منها دون إرادة ورغبة، بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد في الخوف من الموت، والحرص على الحياة، وحين تولد الإرادة فهي تنعتق من مثلث الخوف هذا فتتحرر الشعوب.
نحن نولد في (عصر) نعيش ثقافته، لا نتحكم في وقت المجيء إليه في ثانية واحدة منه تقديماً وتأخيراً، تدفعنا يد جبارة إلى مسرح الأحداث؛ فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان فلا تسمع لهم ركزاً.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فنحن لا نفهم تماماً ما حولنا، لا من العدم الذي خرجنا منه ولا العدم الذي ننتهي إليه؟ ونحن وفي اللحظة الواحدة مطوقون بصمت أبدي لا سبيل لنا إلى خرقه.
نحن نتأرجح بين العدم واللانهاية التي تغمرنا في كل حين، فكل فرد منا هو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لا شيء أو صفر في علم الرياضيات إذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصولها يلفهما سر لا سبيل الى استكناهه، فنحن عاجزون عن رؤية العدم الذي خرجنا منه واللانهائي الذي يغمرنا.
نحن لا نستطيع ركوب آلة الزمن فنعود إلى زمن الأنبياء، كما لا يمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة، نحن محكومون بأجل لا فكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لا يخترق إلا بطريقة واحدة: الخيال، هكذا تصور دافنشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة عشرين ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن أسرى (ثقافة) ننتسب إلى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب، نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس، تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة، المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه، من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكاً، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعياً، كذلك كان الانتساب إلى منطقة ما قدراً ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في راوندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في أفغانستان، ومن كان ألبانياً في كوسوفو يخسر كل شيء ليقرر مصيره أساطين السياسة في لوكسمبرغ، أو يعتلي صهوة سيارة جيمس في الخليج ترجع رفاهيته إلى صدفة جيولوجية أكثر من عرق الجبين، ومن يحالفه سوء الحظ فيولد في بعض مناطق العالم العربي قد يكون رهين الاعتقال، لا يرى خروجاً من ظلماتٍ بعضها فوق بعض، في حالة استعصاء ثقافية دون أمل في الخروج من النفق المسدود، لا يستطيع فتح فمه إلا عند طبيب الأسنان، أو هارباً خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الأرجنتين، أو لاجئاً سياسياً في السويد وألمانيا، أو مهاجراً كندياً إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ 5% له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغداً بالعشي والإبكار، في بلد هو مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و(الفكر) و(اللغة) أفضل من البيولوجيا فقد يفر عراقي إلى بريطانيا مبدلاً وطنه، وقد يعتننق فنان بريطاني الإسلام مغيراً عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الإنسان بالعلم دون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع، وهذا أكبر من هلوسة، فنحن في الواقع مكبلون بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوح لكل الاحتمالات والاستعدادات، والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجيا فيجعل من الفرد بشراً سوياً، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجةٍ مجروحةٍ فتنقرها حتى الموت، وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والأذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاثة أشكال: من ظهر الأرض إلى قبر السجن، ومن دفء الجماعة إلى برد العزلة، أو من شاطئ الحياة إلى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي. هامش الحرية كما نرى كالصراط يوم القيامة أرفع من الشعرة وأحدّ من السيف، ونحن نعيش إكراهات متتالية من المهد حتى اللحد، في قبضة الجينات وزنزانة الزمن، وقفص الثقافة، ومعتقل المجتمع.
مع هذا فلا يتقدم المجتمع إلا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الإنسان، وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية وحركته كفيزيولوجيا وتطور.
العقارب تعيش على ظهر البسيطة دون تغير يذكر في نمط حياتها منذ 400 مليون سنة، ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات تعيد دروة إنتاج نفسها دون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لا يخرج منها إلا لمواجهة حادث مروع، العجل يمشي بعد الولادة بساعات والأرانب تنضج في شهر فتسعى، ويبقى الإنسان الكائن الوحيد الأضعف طراً في مملكة الحيوان، ولكن الفرد يمتص خلال سنوات قليلة خبرة كل الجنس البشري المتراكمة في ثلاثة ملايين من السنين؛ فينطق ويحمل الكراهيات وأخطاء الثقافة من خلال ثلاث لغات متتالية (سيميائية) من تكشيرة الوجوه وحركات اليدين و(صوتية) بالصراخ أو الاستحسان وثالثة بـ (الكتابة) وهي القشرة السطحية لنقل النظام المعرفي، وتبقى الطبقات الكتيمة العفوية من التشكل الأركيولوجي الثقافي خلف الكثير من سلوكنا اليومي. نحن والحيوانات نعيش على ظهر الأرض منذ ملايين السنين، ولكن الإنسان وضع قدمه على القمر ونزلت مراكبه على سطح المريخ ويرسو اليوم على ظهر الكروموسومات؛ فيكتشف أسرار الشيفرة السرية للوراثة وتصرفاته الحافلة بالأسرار، ويعرف أن 95% من حركة الإنسان يقودها (لا وعي) أعمى.
ثقب العين صغير ومنه يرى الإنسان العالم، ومن هذا الثقب لا يرى إلا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، ما يرى منه عشر معشار ما لا يرى، لم يكن غريباً أن أقسم القرآن على ما تبصرون وما لا تبصرون، مع كل هذه المحدودية للرؤية فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره فيرى توهجاً لامعاً للنجوم من عمق المحيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الإنسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور دون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون، كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزيناً: يا رب هذا الكون لا يعجبني فيأتيه الجواب: اهدمه وابنِ أفضل منه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.