“هل أبيع شرفي لتعليم أبنائي؟!”.. يخوضون رحلة الأشواك بحثاً عن مستقبل أفضل لأولادهم.. صفحات من دفتر أحوال المصريين

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/10 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/10 الساعة 13:00 بتوقيت غرينتش

لأسابيع، راقب سائق سيارة الأجرة الخمسيني؛ أحمد، ابنه الأوسط، محمداً، وهو نائم في سريره، بينما يساوره شعور بالذنب الذي سريعاً ما تحول إلى دموع قهر لعدم قدرته على تحمل مصاريف تعليمه.

خضع أحمد لعملية جراحية نتيجة تعرضه لحادث سيارة، الأمر الذي أجبره على تقليل فترة عمله من مناوبتين إلى مناوبة واحدة على سيارة أجرة لا يملكها. ومع تناقص دخله الشهري، كان يجب عليه إخراج أحد أبنائه من المدرسة التي لم يعد يتحمل تكاليفها إلى جانب متطلبات الحياة شديدة القسوة.

"لقد كان اختياراً صعباً، فأخوه الأكبر في آخر سنة دراسية له وكان من الظلم أن أخرجه بعد أن وصل لهذه المرحلة الدراسية المتقدمة، بينما تحتاج أصغر بناتي تعليمها الابتدائي على الأقل"، يقول الأب في حسرة من ليس بيده حيلة.

"أنظر إلى ابني كل يوم وأطلب منه أن يسامحني. إلا أنني لا أستطيع تحمل مصاريف دراسته. فمراهق مثله في الرابعة عشرة من عمره يحتاج على الأقل إلى 15 جنيهاً (أقل من دولار واحد) يومياً لتغطية مصاريف مواصلاته وطعامه فى المدرسة، وأنا لا أستطيع تحمل ذلك مادياً".

تعيش الأسرة فى حي المقطم، جنوب العاصمة المصرية القاهرة، في مجمع شقق، يسمى "الزلزال". وهي المنطقة الفقيرة التي أُعيد فيها تسكين الآلاف من الذين فقدوا منازلهم أثناء زلزال مدمر ضرب مصر في 1992.

مجانية ولكن مكلفة


يذهب أكبر أبناء أحمد إلى المدرسة الحكومية يومين فقط في الأسبوع حتى يدخر مصروفه اليومي. وكذلك الحال مع ابنته الصغرى التي لم تحصل على الكتب المدرسية هذا العام لأنهم لا يستطيعون شراءها.

التعليم في مصر مجاني في كل مراحل التعليم في المدارس الحكومية، والطلاب مطالبون فقط بدفع بضع جنيهات كل عام من أجل الكتب المدرسية. ولكن مع مستوى التعليم المنحدر في نُظم المدارس الحكومية، لجأت ملايين من الأسر المصرية إلى الدروس الخصوصية لتعليم أبنائهم، مضيفين بذلك عبئاً اقتصادياً آخر على أحوالهم المادية المتعثرة بالفعل.

وفي حين أن لا أحد من أبناء أحمد يأخذ دروساً خصوصية، كانت النتيجة هي رسوب ابن أحمد في سنتين دراستين قبل أن يتخذ والده قراره الصعب بإخراجه من المدرسة نظراً لظروفهم المادية القاسية.

"إن المدرسين لا يعلّمون الطلاب أي شيء داخل الفصول الدراسية، ويجبرونهم على أخذ دروس خصوصية لينجحوا في مادتهم"، يشكو الوالد المطحون.

يعاني نظام التعليم الحكومي في مصر من شدة تكدس الفصول الدراسية، وقِدم المناهج الدراسية، وقلة الموارد، كما تقدّم الحكومة للمدرسين مرتبات ضئيلة جداً، الأمر الذي يجعلهم يشعرون بالإحباط وعدم وجود حافز على العمل. فكثير من المدرسين يعتمدون على إعطاء الدروس الخصوصية لتدبير أمورهم.

ومن حسن الحظ أن أحمد كان على صلةٍ بجمعية خيرية محلية، تكفلت بدفع مصاريف تعليم أبنائه، ليتمكن من إدخال ابنه محمد إلى المدرسة مرة أخرى، يحكي "كنت مثل شخصٍ تائهٍ في الصحراء، وأخيراً أعطاه أحد كوب من المياه العذبة".

هيثم محمد، متطوع في الجمعية الخيرية التي ساعدت أحمد، يقول أن جمعيته بدأت في قبول التبرعات لتمويل تعليم طلاب من عددٍ من الأسر منذ عام. وأضاف أنهم يدفعون مبلغ شهري يصل إلى 4000 جنيه مصري (220 دولار) إلى الأسر لتغطية أي تكاليف إضافية خاصة بالتعليم، مثل الكتب، والمواصلات، والمصروف اليومي.

يقول محمد: "إن الشيء الجديد الذي نشهده هو تزايد احتياج المصريين لتمويل تعليم أبنائهم أكثر من أي وقتٍ مضى. ونتيجة للأزمة الاقتصادية الحالية، رأينا طبقات اجتماعية جديدة من المصريين التي تحتاج إلى مساعدة". مشيراً إلى أن هذه الطبقات تتضمن موظفي الحكومة من الطبقة الوسطى وسائقي سيارات الأجرة.

المتسربون


وفقاً لجريدة الأهرام الحكومية، لا يُحالف كثيراً من المصريين الحظ مثلما حدث مع أحمد. ففي يناير/كانون الثاني 2017، نقلت جريدة الأهرام (رسمية) عن مسؤول حكومي -غير مذكور اسمه- في وزارة التعليم، الذي قال إن 55 ألف طالب قد تركوا التعليم في السنتين الأخيرتين، وأن هناك جهود مشتركة مع وزارة التضامن الاجتماعي لإرجاعهم للتعليم.

وذكر تقرير أصدرته الأمم المتحدة في عام 2014 أن معدل من يتركون التعليم في المرحلة الابتدائية في مصر 3% تقريباً، أي ما يعادل 320 ألف طالب تقريباً.

وأوضح التقرير، أنَّ "كثيراً من الأطفال خرجوا من المدارس بسبب الفقر وعِمالة الأطفال، إضافة إلى موقف الأهل الذين لا يرون قيمة في التعليم مقارنة بالعمل".

ومثل هذه المعدلات ليست جديدة، إلا أن الاضطرابات الاقتصادية الأخيرة التي لحقت قرار تعويم الجنيه المصري في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، والتي جعلت تكلفة التعليم تكاد تكون غير محتملة للملايين من المصريين. فضلاً عن معدل التضخم في مصر الذي وصل إلى 24% نتيجة قرار التعويم.

وصُنفت مصر الرقم 139 على 140 في جودة التعليم الابتدائي وفقاً لتقرير التنافسية العالمية لعام 2015-2016.

ومن جانبه، أوضح كمال مغيث، باحث في المركز القومي للبحوث والتطوير، أن الفقر كان هو العائق الرئيسي أمام المصريين لتعليم أبنائهم.

واستطرد "الأمر الذي أدى إلى نتيجتين، الأولى التي منعت جزء كبير من الفقراء من إرسال أبنائهم إلى المدرسة في المقام الأول، أو إدراج آخرين لأبنائهم في المدارس وإخراجهم لاحقاً".

وأشار مغيث أيضاً إلى معدل البطالة المتزايد وسط خريجي الجامعات. فوفقاً لدراسة قامت بها منظمة العمل الدولية في 2014، فإن معدل بطالة الشباب من خريجي الجامعات وصل إلى 34%، مقارنةً بمعدل البطالة 2.4% بين الشباب الذين لا يملكون شهادة تعليم ابتدائية.

"لا يرى المزيد من المصريين فائدة من تعليم أبنائهم".

التعليم الدولي.. عبء مضاعف


كما ندد المصريون المستقرون مادياً بمصاريف التعليم المتزايدة في المدارس الدولية. ففي هذه المدونة المصورة، انتقد عثمان بدران، ولي أمر طالب في المدرسة الأميركية الدولية، بشدة ارتفاع مصاريف المدرسة.

وقال بدران: "ندفع كل ما نملك لنضمن تعليماً جيداً لأبنائنا، لأن هناك ثغرة واسعة بين المدارس الحكومية والمدارس الخاصة والتي ترفض وزارة التعليم سدّها. لا تعتقدوا يوماً أننا ندخل أبناءنا مثل هذه المدارس ركضاً وراء الهيبة، فمصاريف التعليم هي عبء على الكل. الناس لا يعرفون كيف يعيشون".

وأضاف: "إننا على وشك بيع شرفنا، فشرفنا تناقص إلى النصف بعد التعويم".

أسماء، هي والدة طالب في المستوى الثاني الابتدائي في المدرسة البريطانية الدولية. قبل التعويم، كانت تدفع 45 ألف جنيه مصري (2,511 دولار) في التعليم سنوياً، إلا أن التكلفة قفزت إلى 65 ألف جنيه مصري (3,621 دولار) عقب قرار 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016.

وقالت لمجلة ميدل إيست آي: "كان علي أن أترك البلاد كلياً والانتقال للعيش في لندن حيث كنت أعيش. فابني يرتاد هنا أفضل المدارس وبالمجان".

وأكملت أسماء أنها قاومت قرار الانتقال من مصر لوقتٍ طويل، إلا أن الارتفاع المفاجئ في تكلفة المعيشة بعد التعويم جعله من المستحيل لها أن تستمر في العيش هناك.

مضيفة: "إن الوضع في مصر شديد الصعوبة، وفرص العمل نادراً ما تتوفر وأصبح من المستحيل استمرار العيش هناك".

كما يعاني أثرياء البلاد أيضاً. حيث تظاهر طلاب في الجامعة الأميركية في القاهرة، أفضل جامعة خاصة في مصر، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني ضد الارتفاع الكبير في رسوم الجامعة. لأن الطلاب الآن مطالبون بدفع نصف الرسوم بالدولار. وحمل الطلاب أثناء تظاهرهم لافتات مكتوب عليها "والدي ليس لصاً".

وبعد الضغط المتزايد من الطلاب، قررت الجامعة وضع رسوم الدراسة كما كانت قبل تعويم سعر الصرف. الأمر الذي كلف الجامعة مليون دولار، إضافة إلى تطبيق مخطط منح طوارئ بخمسة ملايين دولار لتأكيد عدم اضطرار أي طلاب إلى ترك الجامعة. ووفقاً لتصريح صحفي من قِبل إدارة الجامعة، فإن نصف طلاب الجامعة من غير الخريجين مدرجون في نظام المنح.

إلا أن المصريين من أصحاب الدخول المتوسطة هم الأكثر تضرراً من الأزمة الحالية. في ظل عدم استطاعتهم تحمل تكلفة إرسال أبنائهم إلى مدارس دولية، لا يمكنهم أيضاً إرسالهم إلى مدارس حكومية لسوء جودة التعليم فيها.

إياد، وهو مهندس وأب لطفلين. أحد الطفلين في رياض أطفال في مدرسة خاصة في القاهرة. يدفع إياد لابنه 15 ألف جنيه (835 دولاراً) في السنة، ولا يعرف كيف سيتكفل بمصاريف طفله الأصغر عندما يبدأ في الذهاب إلى المدرسة خلال عامين.

وأضاف: "سأدفع 30 ألف جنيه (1,682 دولاراً) سنوياً على الأقل للطفلين في حال بقيت الرسوم كما هي. كم من المال يجب أن نجني لتحمل تكلفة ذلك؟".

أوضح إياد أنه ليتمكن من الادخار لدفع رسوم مدرسة ابنه، كان عليه الدخول في جمعية، وهو نظام ادخار يقوم به المصريون عادة لتوفير المال من أجل التعليم، أو الزواج، أو أي احتياجات مادية أخرى أو طوارئ.

قائلاً: "يلجأ آخرون لبيع سياراتهم أو شققهم للادخار من أجل تعليم أبنائهم. يعتقد البعض أن امتلاك شقة أو سيارة هو شكل من أشكال الترف، ولكن صدقني إنها ليست كذلك".
بالنسبة لإياد ولملايين المصريين من أمثاله، توفير تعليم عالي الجودة لأبنائهم هو شكل من أشكال الاستثمار. يقول إياد: "أنا أستثمر في أولادي، وقد أدفع كل ما أملك لتوفير تعليم جيد لهم، فهذا هو كل ما نملك".

*تم تغيير الأسماء لأسباب أمنية

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.

علامات:
تحميل المزيد