يلجأ الشباب بشكل عام، والشباب العربي بشكل خاص، لاتباع شتى الطرق للتعبير عن أنفسهم وعن مشكلاتهم الحياتية التي تواجههم عن طريق الفن، والموسيقى، والكتابة، والتصوير، والغرافيتي وغيرها من الطرق الكثيرة التي يسعى من خلالها الشباب لرسم بصمته على أرض الواقع.
لكن الموسيقى بالأخص هي بمثابة مخرجٍ للشباب وهواية من هواياته يُسقي ويُنمي بها عقله ويهذب بها روحه، فمن تجربتي الشخصية، كنت أقضي أربع ساعاتٍ يومياً على آلة القانون الموسيقية بعيداً عن صخب وضوضاء العالم الخارجي والحروب والصواريخ والقتل والدمار سعياً لبناء جوّي وعالمي الخاص بي الذي يخلو من كل شيء سواي أنا وآلتي والطبيعة والموسيقى.
لكن الموسيقى لا تنحصر فقط في الشباب بل هي للجميع وستبقى دائماً للجميع، لأي ولكل شخص يريد الاستمتاع بألذ ملذات الحياة والابتعاد، أو على الأقل أن ينسى مشكلات الحياة الروتينية الفاترة ولو لوهلة قليلة، فمن الناس من يستمع إلى عبدالحليم حافظ وأم كلثوم، ومنهم من يستمع إلى مغنيي الراب والهيب هوب والبوب، لكن الشيء الذي يجمعهم هو سماعهم للموسيقى، فكل إنسان يستمع إلى الموسيقى التي تخاطبه وتكلمه فيها.
وقد استعان الشباب العربي بالموسيقى وقت ثورات الربيع العربي، وقدم مفاجأة كبيرة بإعداده الجماهيرية الغفيرة التي عبّرت عن رغبة الشعوب العربية عامة ورغبة الشباب العربي خاصة عن رفضه القاطع والصريح لحياتهم اليومية تحت الأنظمة القمعية.
وبرز منهم الكثير من الذين استخدموا الموسيقى كوقود لشباب الثورة وتشجيعهم وتحفيزهم على الاستمرار أماماً لتحقيق هدفهم، مثل مغني الراب حمادة بن عمر الذي كان أحد أهم الأسباب في تشجيع الشباب التونسي نحو إشعال أول ثوره من ثورات الربيع العربي، وكانت أغنيه (ريّس البلاد) بكلماتها الجريئة بمثابة رمز للثورة التونسية، التي تم وصفها بنشيد ثورة الياسمين.
وألهمت الثورة التونسية الشباب العربي كله حتى برزت نماذج أخرى في دول عربية مجاورة، كفرقة كايروكي المصرية، التي خاطبت الشباب المصري وشجعته بكلماتها (اثبت مكانك، هنا عنوانك، ده الخوف بيخاف منك وضميرك عمره ما خانك، اثبت مكانك ده نور الشمس راجع"، ويكمن أحد أسرار نجاح تلك الأغنية في اللغة العربية العامية النيشية (niche) الشبابية التي استخدمتها الفرقة لتستهدف فئة ديمغرافية معينة من الشعب وهي الشباب.
وبرزت في فلسطين الكثير من الفرق الموسيقية مثل وتر باند وMC GAZA ومُغنين مثل مُحمد عساف في محاولة منهم ورغبة في مواجهة الواقع الأليم والحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2007.
فمثلاً أغنية مُحمد عساف (علّي الكوفية علّي ولولح فيها)، فهي أصبحت أُغنية شعبية تكاد تكون في مستوى النشيد الوطني الفلسطيني من حيث شهرتها ورمزيتها؛ حيث من المستحيل أن تمضي يوماً واحداً في فلسطين في غزة أو الضفة الغربية دون سماع تلك الأغنية، يرددها شابٌ أو شابة في الشارع أو في سيارة أُجرة عُمومية.
وهنالك بعض الشباب والفرق الموسيقية التي تُقاوم بالموسيقى، فطرق المقاومة تتعدد ولا تنحصر فقط على المقاومة المُسلحة، فمثلاً كما شاهدتُ في الكثير من الحفلات في مسرح العالم العربي في باريس من فرق موسيقية استخدمت الراب والهيب هوب والفن الشرقي الكلاسيكي لإيصال رسالة فلسطين عبر الموسيقى إلى الشعب والحضور الفرنسي بأسمى الطرق السلمية، خصوصاً أن من أوصل هذه الرسالة ليسوا رجال أعمال أو سياسيين من الحكومة، بل هم شبابٌ بسيط من عامة الشعب.
إذا تصفحنا طيّات التاريخ سنجد أن الموسيقى جزء لا يتجزأ من طبيعة وتطور الإنسان، ولطالما كانت مواكبة له في كل وجميع الأحيان والأحوال، من التغني في جمال المحبوبة، إلى مديح السلطان والملك، إلى إمتاع الجمهور وإسعادهم، إلى نعي الميت، إلى النشيد الوطني للدولة لتثبيت عقيدة الجيش والوطن في الجندي وإلى إشعال ثورة بأكملها.
وفي ظل كل ما يحدث في العالم والوطن العربي حالياً من حروبٍ وقتلٍ وتشريدٍ وظهور شر جديدٍ اسمه "داعش"، تبقى الموسيقى شمعة أمل مضيئة وواحة في صحراء قاحلة نلجأ لها دائماً لتذكرنا بشيء واحدٍ يجمعنا جميعاً بها، جمالُها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.