لا تقتلوا موسى قبل أن يعيش

في العراق وفي اليمن، في مصر وليبيا، يُغتال الطفل كل يوم، ويحبس في رأسه عبقريات يافعة وقدرات قد تستطيع يوماً ما معالجة السرطان، وإنهاء المجاعات، قادرة على مبارزة المتنبي، وملهمة أكثر من لوثر كينغ، وحالمة أكثر من ابن فرناس، ثورية أكثر من جيفارا، وبصيرة أكثر من ابن الهيثم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/18 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/18 الساعة 02:09 بتوقيت غرينتش

يُحكى أن تاجراً في سوق بغداد التاريخية سرق نظرَه يوماً ما غريبٌ يراقبه وسط الزحام، تفحصه التاجر بريبة فرد عليه الآخر بنظرة تعجب، فعرف الأول بينه وبين نفسه أن الغريب هو الموت، تاجرنا ارتعدت أوصاله.. رجف فؤاده.. ترك ماله وبضاعته، وفرّ بعيداً يقصد مدينة سامراء.

بعد سفر طويل تقلّب بين شمس الظهر وبرد الفجر، ورحلة موحشة وحيدة لا تحمل سوى معنى الرعب والخوف واللجوء والهرب، وصل صديقنا وجهته النهائية، يستقبله الموت على باب المدينة، استسلم التاجر لقدره متسائلاً: لمَ تعجبت من رؤيتي في بغداد إذاً؟ أجاب الموت: لأن موعدي كان معك مساءً.. في سامراء.

يوم قرر أطفال درعا وطلابها أن آمالهم وأحلامهم يمكن أن تصبح حقيقة، وأن ما يمكن أن يكونوه حال حصلوا على حقهم بـ"حياة" يجب ألا يُجهض قبل أن يعيش فكل روح مقدسة، قصف النظام التوأم الأول وقطع التطرف رأس التوأم الثاني.

ما يقرب من ستة أعوام والمستقبل السوري يُمحى، والأرواح الصغيرة تصعد تاركة خلفها سجناً حَبَسَ احتمالات لأفكارٍ عظام، ولشخصيات جسام كان من الممكن أن تُعلّم العالم أن يُفضلَ التعايش مع البشر على قتلهم مرتين.

الأمل المُعلّق مرفوض، والحلم والممكن ممنوع، المستقبل هنا يرسم بيد الجلاد، الوضع السيئ يخلفه الأسوأ، النفق يزداد عمقاً، والليل لا يزداد إلا حُلكة.

أما غزة، التعريف العملي لنظام التعليم العربي، الذي يحفظ الشيء ولا يعرفه، ويدرس الاستدامة ولا يفهم معناها، فيشرح لنا حالة أجيال شابة لا تعرف ما هي الحياة دون حربٍ دائماً هم فيها الضحية، عدوان متكرر أو حروب كانت أولاها منذ سبع سنين كلها عجاف، جعلت اللاجئ يعود للجوء وبدل أن يحلم بالعودة لقريته التي هجّر منها أجداده في 1948، أصبح يحلم باللجوء للبيت الذي لجأ له.

أهل غزة على عكس حاكميها فقراء مساكين، لا يملكون سوى السنوات لعدها، فيعدون 10 سنوات على أزمة الكهرباء، فلا يفهم أطفالها معنى الحياة دون جدول وصلٍ وقطع، ويعتادون بين الوقت والآخر على خبر احتراق عائلة بأكملها؛ لأنها رفضت لعن الظلام وأشعلت شمعة.

ويعدون أيضاً 11 سنة على الحرب الأهلية لحماس وفتح التي قسمت المجتمع بين "حسم" و"انقلاب" و"اقتتال"، وأيضاً يعدون سنوات ذكرى انطلاقة هذه الفصائل التي دمرت مستقبلاً وحلماً وفكرة في مخيلة الآلاف.

في العراق وفي اليمن، في مصر وليبيا، يُغتال الطفل كل يوم، ويحبس في رأسه عبقريات يافعة وقدرات قد تستطيع يوماً ما معالجة السرطان، وإنهاء المجاعات، قادرة على مبارزة المتنبي، وملهمة أكثر من لوثر كينغ، وحالمة أكثر من ابن فرناس، ثورية أكثر من جيفارا، وبصيرة أكثر من ابن الهيثم.

قد تصنع أهراماً حديثة، وتعلق حدائق جديدة، وتُشيد منارة أكثر ضياءً، وتروض عملاق رودس، وتمتلك شجاعة قلب أكثر من زوس، وتترك إرث أكثر حضارة من موسولوس وآرتميس.

آلاف وملايين الأفكار والمشاريع مُسحت وسقطت من المستقبل كأنها لن تكون، كل ذلك لأن من يتاجرون بمستقبلنا خافوا كخوف تاجر بغداد، إلا أنهم لم يتركوا بضاعتهم خلفهم قبل أن يفروا إلى قدرهم، بل حطموها وحرقوها واكتنزوا بعضها لرحلتهم التي يقطعونها محتومة موحشة على ظهر الدابة التي سرقوها من فقير وأعدوا رحلها من قوت مسكين.

لا تقتلوا موسى قبل أن يعيش حتى لو فيه نهاية مُلككم، اتركوه يحيا ويصنع ما لم يرد في أكثر أحلامكم جرأة، فبعض الطيور لا يمكن حبسها؛ لأن ريشها لامع للغاية، وعندما تطير بعيداً، يبتهج داخلك ذلك الجزء الذي يعلم يقيناً أن حبسها كان خطيئة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد