حينما أغلقت الهاتف، وللحظات قليلة لم أشعر بأي إحساس، كان الجمود سيد الموقف، لا أذكر متى مررت بمثل هذه الحالة من قبل، رغم تجاربي العديدة في إشكاليات ذات طابع جنسي (مسترجلة تريد أن تتوب، شاب يريد قتل والده الذي اعتدى على أخته، شاب مارَس الشذوذ ويريد التأكد من أنه غير مصاب بالإيدز… إلخ)
إلا أن هذا الاتصال كان مختلفاً.. كان المتصل هادئاً، صوته يبدو بعيداً، متردداً، مرتبكاً، ركز في حديثه على أمر واحد فقط، كان يريد أن يعرف هل يمكنه أن يعوض ضحاياه على ما فعله؟! وهل هناك ما يستطيع به أن يكفر عن خطئه؟!
وكنت أحاول إقناعه بألا يشغل نفسه بالأمر.. في بداية الاتصال، سلَّم عليَّ، وسألني عن أخباري، وبالَغ في السؤال وكأنه يقدم رِجلاً ويؤخر الأخرى، ربما لم يكن قد حسم أمره إن كان سيصارحني بما يجول في خاطره..
فجأةً، دخل في صلب الموضوع دون مقدمات.. قال: "لقد اعتديت جنسياً على بنات أخي الثلاث على مدار سنوات طويلة، ولم أتوقف حتى اكتشف أخي هذه الاعتداءات في العام الماضي، فواجهني بما فعلت وطلب مني ألا أُريه وجهي بعد ذلك اليوم، ولم يقدم أي شكوى ضدي، كما لم يفضحني.
وقبل أيام، أرسلت له رسالة أخبرته فيها بأني أعتذر عن كل ما فعلته، وأني مستعد أن أقوم بأي شيء يطلبه لأعوض بناته عن كل ما حدث، ولكنه لم يردَّ، فلما أرسلت إليه رسالة أخرى أخبرني بأنه لا يريد شيئاً ولا يريد أن ألتقي عائلته مطلقاً".
في أثناء حديثه، فقدت الشعور، وكنت كمن ينظر إلى مشهد باهت لا حياة فيه ولا روح؛ ربما لأني مصاب بنوع من البلادة الحسية في مثل هذه المواقف، وربما لأني مؤمن بأني أتحمل مسؤولية كبيرة عليّ أن أقوم بها على أتمّ وجه، وتورُّطي عاطفياً فيما أسمعه يعني أني لن أكون طرفاً حيادياً ولن أتمكن من تقديم مشورة ذات بُعد موضعي.
سألته: ما طبيعة الاعتداءات التي اقترفتها؟ فأجاب: "فعلت كل شيء، ما عدا (الوطء)".. ثم تابع: "عندما أخبرت خطيبتي بما فعلته طلبت مني الانفصال، وقد تركتني قبل أيام، والآن أعيش وحيداً، ولا أعرف ماذا أفعل!".
سألته: لماذا أخبرتها؟ قال: "حتى لا أكون خدعتها وأخفيت عنها أمراً بهذا السوء في حياتي.
بعد أن تيقنت أني حصلت على المعلومات الكافية، وأن المتصل قال كل ما يريد، قلت له وأنا حريص على عدم تأنيبه أو توبيخه أو إيلامه بأي شكل من الأشكال: أتفهم رد فعل أخيك، فإن الخطأ الذي حصل كبير، وهو يمثل جرحاً لدى البنات ووالدهنّ، وأفضل ما يمكنك تقديمه لهنّ ولوالدهنّ أن تبقى بعيداً عنهم؛ لأن قربك سيذكِّرهم دائماً بالجرح الغائر، وسيمثل نوعاً من رش المِلح على هذا الجرح النازف.
وعليك أن توطِّن نفسك على هذا الأمر الذي قد يمتد سنوات طويلة وربما أكثر، وبما أنك تبت إلى الله فإن الله يقبل التوبة من عباده عن كل الذنوب والخطايا. وكفارة ما فعلته أن تكون إنساناً صالحاً في نفسك، وبنّاء في مجتمعك، فتقدم الخير لكل الناس، وتُكثر من عمل الصالحات، فأنت خليفة الله في أرضه.
ولو كبوت ووقعت في الخطأ فلديك خياران للتعامل مع هذه الكبوة والخطيئة: فإما أن تحملها على ظهرك فتثقل مسيرك، وتأسرك طوال حياتك، وربما أوردتك المهالك. وإما أن تجعلها تحت قدميك فترتقي بنفسك وتعانق السماء.
ويا أخي، مثل هذه الإشكاليات الأصل فيها الستر، وأن تكون سراً دفيناً في صدرك لا يعلمه غيرك، فاحرص على أن تنهي الحديث في الموضوع مع أي إنسان كائناً من كان، وأريدك بعد أن تقفل الخط أن تدفنها مع هذا الاتصال، وتعاهدني بألا تخبر بها أحداً بعد اليوم.
ثم ودَّعته وأقفلنا الخط. بعدها دخلت في تفكير عميق تأملت فيه حال هذا الشاب، وحال ضحاياه، وحال ذلك الأخ العاقل الذي تعامل مع الموضوع بالستر، وإن كنت أتمنى لو عرض بناته على مختص نفسي ليعالجهنّ مما تعرضنّ له.
ثم أخذني تفكيري لما لاحظته من حواجز أصّل لها الإسلام لحفظ أبنائنا وبناتنا من أقرب الناس، حتى أمرنا أن نفرق بين الإخوة في المضاجع، يظن الكثيرون هذه المعايير مبالَغاً فيها، ولكنها اليوم باتت هامة بشكل لافت مع تحول الجنس إلى تجارة تدرُّ المليارات على المتاجرين بها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.