كُلَيْمة.. إلى أساتذتنا الأبرار

ما زال أساتذتنا القُدامى الذين نحبّهم أوفياء لمعايير التربية القديمة، تلك المعايير التي كانت متأثّرة ببيئة نشأتها، والتي كانت تقسّم الناس إلى سيّد ومسود، ويفعل الأوّل في الثاني فعل السيادة والسلطة.. أو فعل التسيّد والتسلّط.

عربي بوست
تم النشر: 2017/05/04 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/05/04 الساعة 02:22 بتوقيت غرينتش

تربيتُ في مدارس تونس ومعاهدها وجامعاتها على أيدي معلمين وأساتذة أفذاذ، أعترفُ لهم بالفضل، وأقبّلُ أياديهم، وأُحبّهم وأتقرّبُ بحبّهم إلى الله.

لقد كنتُ وجيلي -جيل ما قبل الربيع العربي- في أياديهم آمنين مطمئنّين، رغم معايير التربية التي حافظوا عليها منذ امتهنوا التربية، وكنّا وإيّاهم في انسجام تامّ، يفهموننا وإن شوّشنا على الدرس، ونفهمهم وإن عاقبونا، ولو ضرباً.

كنّا نَقبل منهم كلّ شيء، ويَقبلوننا رغم كلّ شيء، وكان هذا القبول يجري في إطار بنية ثقافيّة كليّة منسجمة أطرافها.

اليوم، وبعد الربيع العربي، ألتحقُ بأساتذتي مربّياً، وأكتشف أنّ ذاك الانسجام مهدّد بالتفكّك وربّما بالتفجّر، وهذا التهديد نلمحه واضحاً في اختلال القوانين التي كانت ترعى الانسجام سابقاً.

إنّ الاختلال جليّ في التغييرات التي أحدثها الربيع العربي في البنى الثقافية والذهنية والوجدانيّة والاجتماعية للجيل الجديد، فصيّره جيلاً لا يتردّد في طلب الاعتراف به بشتّى التعبيرات، ولذا نجده جيلاً يفرط أحياناً في اقتحام الدوائر التي كانت بالأمس محرّمة على جيلنا، إلّا أنّ هذه التغييرات في صفّ المتعلّمين لم يحدث ما يقابلها في صفّ المربّين.

ما زال أساتذتنا القُدامى الذين نحبّهم أوفياء لمعايير التربية القديمة، تلك المعايير التي كانت متأثّرة ببيئة نشأتها، والتي كانت تقسّم الناس إلى سيّد ومسود، ويفعل الأوّل في الثاني فعل السيادة والسلطة.. أو فعل التسيّد والتسلّط.

كذا كانت الأجواء في دنيا الناس قبل الربيع العربي، الحاكم مستبدّ بأمره والمحكوم مذعن لا حول له ولا قوّة حتى ثار، وكذلك كانت الأجواء في فصول التربية تتراوح في روع المتعلّم بين الحذر والرهبة.

وكما عاد الساسة إلى المشهد السياسيّ بمعايير السياسة القديمة التي لا تعترف للمواطن العربي بدور في الرأي والحكم، يعود أساتذتنا بمعايير التربية القديمة يُعملونها في أوعية وأذهان وأرواح وأفكار لا تقبلها.. ولن تقبلها، وهنا بالضبط مكمن التهديد.

ولذلك فإنّ ما نراه اليوم من مشاهد التوتّر بين المربّين والمتعلّمين هي دليل ذاك التهديد الذي يحتاج معالجة في أصوله، ولا نرى المعالجة أوّلاً في صفوف المتعلّمين، وإنّما، وبكلّ إنصاف، في صفّ عدد كبير من أساتذتنا القدامى الذين نحبّهم.

إنّ نداءات أبنائنا التلاميذ والطلبة متكرّرة يلمحها ذو اللبّ في أعينهم، وهي نداءات تدعو إلى التوافق على إعادة صياغة دستور الفصل التربويّ على أساس الاعتراف بجيل فعلت فيه متغيّرات نظام العولمة فعلها تحرّراً وانعتاقاً نحو مطلق المعاني والأفكار، ولذا هذه كُلَيْمة لأساتذتنا إن اعترفوا بهذا الجيل "الغريب" في سبيل التعرّف إليه على حقيقته قصد سياسته بما لا يفجّر العلاقة به، دون انتظار لوائح الإصلاح المقيّد بشروط السياسة والاقتصاد، فلعلّ حال المنظومة التربويّة ينصلح من داخله ولو جزئيّاً.

إن تفعيل الاعتراف هو "نزول" المربّي من مسطبة التسيّد والتسلّط واحداً إلى ما بين الصفوف والطاولات فرداً من أفراد أسرة واحدة يحكمها عقد الاعتراف بين الطرفين، وإلّا ستنتظر التربية في البلاد العربيّة دورة ثقافيّة تأتي بمربّين عاشوا الربيع العربي تلامذةً وطلّاباً ويحملون في تكوينهم قُدْرَةً ثقافيّةً يحتاجها المعلّم المعاصر ضمن قدراته التعليميّة ويحتاجها راهن التربية في البلاد العربية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد