في إحدى محاضرات الدكتورة هالة بناني، مستشارة العلاقات الزوجية والإخصائية النفسية والمحاضِرة بجامعة Bayyinah Institute بأميركا، وبروحها المرحة حكت للحضور كيف كانت أول جلسة لها مع زوجَين في خريف العمر.. أتى كل منهما إليها يشكو الآخر، وينعى حظَّه بأن ربط حياته بالآخر كل هذه السنوات، بواقع تلك الزيجة الفاشلة، استمعت الباحثة لكليهما باهتمام، ولكنها لم تسألهما ما الذي أتى بكما؟ أو لِمَ تريدان الانفصال؟ أو لِمَ الشكوى؟ بل كانت أكثر ذكاءً وعلى غير المتوقع سألت كلاً منهما على حدة: "ما السبب الذي دفعك للزواج منهها؟"، سؤالها البسيط حوَّل ملامح العجوز الخمسينية إلى ملامح شابة في العشرين، فتخضبت وجنتيها بحمرة الخجل وراحت تقص على مسامعها روايات العشق والهيام، حتى الزوج العجوز كان للسؤال عليه نفس الأثر، فراح يتذكر كم كانت لحظات الحب بينهما تهوّن عليه مُر الحياة، وكيف صبرت عليه وتحملته وتحملت معه وعنه الكثير.. فكان السؤال هو العلاج.
وهكذا حينما تهتز قناعاتنا بشيء ما، لا بد أن نسأل أنفسنا: لمَ فعلناه منذ البداية؟ لمَ تكبدنا عناء الحفاظ عليه والمحاربة من أجله منذ البداية؟ وفي هذا السؤال تحديداً سيكون الدواء والفائدة.
أذكر في إحدى المرات التي دُعيت فيها إلى إحدى الكنائس بمدينة بلفيو، وكنت مدعوة كمتحدث رسمي بالنيابة عن مسجد المدينة التي أقطن بها؛ لأقص عليهم عن تجربتي كمسلمة في القارة الأميركية، فسألتني إحدى المدعوات: "لمَ ترتدين الحجاب في حين أن بعضكن مثل المتحدثة المسلمة الأخرى التي بجوارك لا ترتديه مثلك؟".
ولا أخفي عليكم حقاً كان سؤالاً به من الدهاء ما يتطلب منّي أن أرد بحذر، وفي نفس الوقت بدبلوماسية شديدة حتى لا أزيد من حرج الأخرى، أو على الأقل لأتجنب المشادة والخلاف، فقلت: "حسناً.. لم يجبرني أحد على ارتداء الحجاب، والحجاب بالكلية اختيار رغم أن الكل مأمور بالحشمة وما تشمله من كل معاني الستر والوقار.. وكل امرأة لها أن تختار كيف ترضي ربَّها، ولها تمام الحرية بأي شكل تظهر للعامة.. منا من تلبس حجاباً قصيراً، ومنا مَن تلبس حجاباً طويلاً، ومنا من اختارت أن تحاكي حجاب زوجات الرسول فاختارت النقاب، وأخريات لم يرتدينه، ولكن الجميع مطالب بالاحتشام وهذه هي القاعدة.
فسألتني: "هلّا ذكرتِ لي مثالاً يحتذى به لديكم؟".
فقلت: "مريم العذراء البتول هي قدوتي وغيرها الكثيرات.. كلهن محتشمات يغطين رؤوسهن وأجسادهن من أول الرأس وحتى أخمص القدمين"، وكأنني أقول لها بطريقة غير مباشرة: لو كنتِ تتبعين تعاليم المسيحية فأنا أطبقها أكثر منك، وكوني مسلمة لا يمنعني أبداً من التشبه بالعذراء البتول، رضي الله عنها.
ورغم الأمان النفسي الذي أشعر به كلما ارتديت الحجاب وأزعم أن معظم المحجبات كذلك، وإن كانت تراود بعضهن فكرة خلع الحجاب إما خوفاً من التعرض لهن بالأذى لكونهن مسلمات في بلد غربي، أو لشعورهن بالتقيد بلباس معين، أو ربما تغيرت أفكارهن عن الحجاب أو لأي سبب كان، فإني لأجد الحجاب مظلوماً بين تلك وأولئك.. تقول لنا تلك لقد خلعته وتحررت، وينفث هذا سمومه فيقول: الحجاب ليس بفرض، ويُفتي ذاك بأن الحجاب حجاب القلب.. أي قلب؟ أتفق إلى حد كبير أن هناك الكثيرات ربما لم يرتدين الحجاب، وعلى قدر كبير من الخلق وأعترف أن هناك الكثير أيضاً من المحجبات يفتقرن إلى حُسن الخلق، الحجاب فعلاً ليس مقياساً لأدب المرأة وخُلقها كما كانوا يزعمون، ولكن لمَ لا تفكر أولئك اللواتي يخلعن الحجاب أن يكنَّ من ذوات الخُلق والحجاب والحشمة؟ لم لا يكنّ صاحبات الاثنين معاً.. حسن الخلق والحجاب؟
أؤمن أنه في زمان كهذا الذي نعيشه -حيث اختلط علينا الصالح بالطالح- الحجاب لم يعُد مقياساً لخلق المرأة ولا يعكس ما تربت عليه ولا هو مقياس لقدر صالح عملها وربما ليس دليلا علي درجتها ومنزلتها عند الله، لكني أزعم أن الحجاب هو مقياس لقدر طاعتك لله سبحانه، ومدى ثقتك بالله، ويقينك بأنه كلما تركتِ شيئاً لأجله أفاض عليكِ من كرمه، فأسبغ عليك من نعمه.
لا أعلم لم كلما رأيت إحداهن تخلع حجابها وتباهي الناس بذلك أشعر بالأسى؟! وأشعر أن الدائرة تضيق وتضيق على المستمسكات بتلك الفضيلة، ورغم تبريراتهن بعد خلعه أنهن يفعلن الصالحات وخلعهن للحجاب أصبح أمراً بينهن وبين الله، ورغم فعلهن الخيرات سيتركن الحجاب.. تلك بتلك.. أو هذا يغني عن ذاك.. وأتساءل وقتها: ماذا لو لم يغن فعل الخيرات عن ارتداء الحجاب؟ ماذا لو لم يقبل الله أياً من عملك وبقي الحجاب وحده فضيلة صادقة كانت ستنجيكِ؟ فضيلة تمسكتِ أنتِ بها ورفعكِ بها الله درجات ونجاكِ بها من السوء سواء في الدنيا أو في الآخرة، لكني أتدارك الأمر بعد ذلك وأذكّر نفسي أنني أنا أيضاً يوماً ما في صغري خلعت الحجاب قبلاً.. وعدت له بطيب خاطر ونفس راضية ومن كل قلبي أدعو لنفسي وللأخريات بالثبات على الدين وعلى الحجاب وعلى كل شعيرة نؤديها، وننتظر من الله الثبات عليها واليقين بها حتى الممات.
في هذا الزمن لا أحد بعيد عن الفتنة ولا أحد منزّه عن المعصية.
أوقن تماماً أن التخبط وتقلب القلوب وأمراض النفوس كأمراض الأبدان لا تميز بين صغير وكبير، ومن تعرف لذة القرب من الله لن تترك حجابها وشعائرها، وإن تركت عادت.. فما عند الناس ينفد وما عند الله باقٍ، نسأله وحده الثبات.. كل عبارات الثناء والإعجاب والمديح التي تلقى على مسامعك ستفنى وسيفنى أصحابها وسيبقى وجه الله.. وجه من ترتدين الحجاب لأجله، خبريني الآن: "لمَ ارتديتِ الحجاب؟"، شاركينا قصَّتك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.