يُضرب رجل حتى الموت لخلاف مروري في وضح النهار بشارع عام فلا يتدخل أحد! صاحب مطعم يضرب طفلاً يبيع المناديل أمام مطعمه؛ لأنه لم يبتعد حين طلب منه ذلك والناس بين متفرج ومصور! فتيات يُتحرش بهن فلا يذود عنهن أحد، أطفال يختطَفون ويغتصَبون وتُسرق أعضائهم أو يُباعون في سوق نخاسة، ذبح وتجويع وحرق ومجازر هنا وهناك!
أُغلق التلفاز، أترك هاتفي بعيداً وأغمض عينيَّ في محاولة متعبة لأدرك ما يجري، هذا الإنسان الذي تميز بعقله، بحروف ولغة وأحلام، هذا الإنسان الذي سُمي إنساناً؛ لأنه يأنس ويُؤنس، متى أصبح شرساً يفترس ويفتك؟! كيف ماتت فيه إنسانيته ومتى!
أمنح ذاكرتي فرصة البحث عن إجابة، كانت قطرات دم تنبثق من جرح مشاغبات الطفولة تثير الغثيان تعلن حالة قلق وتكاتف، والآن جثث مقطعة ومحترقة، رصاص ودماء تراشقت لا تحرك ساكناً، لا ترمش عين، تكمل طعامك وحياتك وكأن ما كان خدعة سينمائية أو هذرات محموم.
لون بشرتك، جنسيتك، شكلك، مسقط رأسك، دينك.. كلها أو أي منها قد يحدد مصيرك. أنت مشروع ضحية، سواء كنت في ساحة الحرب أو على حدودها، أو عابراً بالخوف من خلالها. أنت مشروع اغتيال، سواء كنت على أرض مقفرة أو حافلة بالحياة في شوارع مدن ترفل بالرفاهية. وقاتلك بشر، مثلي ومثلك، يشبهك كثيراً في لحمه وعظمه.
هل تدرك ما يجري يا صديق! مات الإنسان فينا، ماتت الإنسانية بلا مأتم ولا عويل، سقطت منا بهدوء ورقة خريف تغادر علو شجرتها، تهشمت تحت أقدام هذه الحياة ولم يُلقِ لها العابرون بالاً.
شجرة الإنسانية، هذه الشجرة الفارعة في الطول التي كانت ذات زمان مثقَلة بالعطاء والظل، أصبحت جذعاً خاوياً، وعيداناً يابسة، وتهاوت أوراقها واحدة تلو أخرى..
حين أصبح الحب حكايا مزيفة، مصالح وحسابات، شهوة نرجسية ولعباً بقلوب لاهية، حين وعدتك فأخلفت، وائتمنتك فخنتني، سقطت ورقة.
حين أصبح التلفاز أم الطفل وأباه وأصحابه، وحين غرق اليافعون في العالم الرقمي واستعبدتهم ألعاب الفيديو، سقطت ورقة.
حين أصبحت هواتفنا هي قلوبنا النابضة، هي مسكن من نحب والطريق إليهم، نفتح عليها أعيننا ولا نغفو إلا بقربها، سقطت ورقة.
حين مات من مات وكانت مواساتنا لأهله رسالة هاتفية، حين نشتاق، نحب، نحزن فقط من خلال الرسائل الإلكترونية، سقطت ورقة.
حين أصبح العناق حالة حب منقرضة، حين خجلت من قول كلمة "أحبك" ولم تخجل من كراهيتك وسلبيتك، حين كتمت طيب مشاعرك، وأطلقت ذئب الغضب وأشعلت في صدرك نار الحسد، سقطت ورقة.
حين لا أمنحك إلا إذا منحتني، ولا أزورك إلا إذا زرتني، وكأن كل العلاقات دين وسداد، سقطت ورقة.
حين أخشى علي من أقرب الناس، حين أتمنى لو أن لي عيوناً خلفية؛ كي أتحاشى طعناتهم، سقطت ورقة.
حين فرحنا لخسارة غيرنا، لجرحهم، لسقوطهم بدل أن نمد يداً تنتشلهم تداويهم، حين عبست وصددت سائلاً، وتحاشيت جائعاً وتناسيت مقهوراً، سقطت ورقة.
حين تحدثت في أعراضهم، ونقلت عنهم ولهم، وطعنت فيهم وذكرتهم بما يكرهون في كل مجلس، سقطت ورقة.
حين صممت أذنيك، وخدرت عقلك، وتعصبت لقوم أو فكرة، وأخذتك حميّة الجاهلية، واتبعت الخطى دون وعي كظل يتبع صاحبه، سقطت ورقة.
حين تأكل وحدك وآكل وحدي ونحن نسكن في البيت نفسه، حين نتصل يومياً لكننا لا نتواصل، حين لا يتعدى حديثك طبلة أذني، سقطت ورقة.
حين كسرت أحلامهم وسخرت من وجعهم، وضحكت على عثراتهم، وعايرتهم بسقطاتهم، حين قلت "ليس الأمر يعنيني"، حين تمتمت لنفسك على عجل "سيهتم بالأمر غيري"، سقطت ورقة.
حين أصبح أول ما تفكر فيه عندما ترى غريقاً أو جريحاً أو محتاجاً ليد العون أن تمد يدك إلى جيبك لتلتقط صورة، حين أصبحت حياتك على صفحات النت الافتراضية هي الواقع المعيش، ومقدار سعادتك يقاس بعدد الإعجابات المسجلة، سقطت ورقة.
وكل يوم وكل حين وفي كل أرض تسقط أوراق أكثر، وتتعرى إنسانيتنا، تموت من كذب ومن خجل ومن وهم، ويموت فينا بعض مما يُبقينا أحياء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.