اسأل عائشة

وبشكل عام.. من المحزن أن تشاهد عائشة كارتوناً في التلفاز تظهر فيه البطة وخلفها فراخها ترشدهم لطريق النهر وهي لا أم لها ولا رشيد، وأن تظهر طفلة تبكي من جرح أصابها ضمن إعلان تجاري فتحضنها أمها، وهي لا أم لها أو حضن حقيقي، وأن تشاهد فيلماً يساعد الوالد فيه ابنته لقيادة دراجتها

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/03 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/03 الساعة 03:18 بتوقيت غرينتش

لا شيء يوجع القلب كأطفال يعيشون طفولة كاملة بحرمان تام من العائلة.. وما أكثرهم في ذاكرة التاريخ!
كل طفل حمل وجعه وحده وسار بين الناس في طريق الحياة وحيداً قد خبر من الأمور والهموم ما يكفي ويزيد لأن يشق عليه الاستمرار.

كيف تستطيع الحياة أن تجمع سنوات عمر هؤلاء الأطفال فيكبروا ليواجهوا نظرة دونية تعود لأهل رحلوا دون حول لهم أو قوة إلى حيث سيذهب الجميع، أو أهل بكامل إرادتهم ارتكبوا الخطأ.. وشتان ما بين أهل وأهل! إلا أن الظلم واحد والطفل واحد.

وإذا كان مقام الحديث هنا يدور حول الأيتام أو اللقطاء، فقصة عائشة هذه مختلفة بطريقةٍ ما، وذلك أن والديها اللذين انفصلا كانا أحياء طوال فترة إقامتها في دور الرعاية، لماذا هي إذاً ليست بينهما؟ اسأل عائشة.

من بين الكثير من القصص المحزنة لأطفال دور الأيتام اختارت أسماء بسيسو، مخرجة فيلم" لسَّه عايشة" عام 2010، عائشة كبطلة فيلمها الوثائقي التي وجدت في شخصيتها ما يشد المشاهد لمتابعة قصتها رغم أنها مشابهة لملايين القصص المستهلكة، فأحسنت الاختيار.

بسيسو أرادت أن تظهر فتاة دار الرعاية هذه كفتاة تمتلك شخصية مرحة، مقبلة على الحياة، وغير مضطربة، تريد أن تأخذ نصيبها من الحياة وتعيش. وما أشق عيشها في مكان يؤهل فيه جميع الكبار صغارهم إلى حياة أخرى بعيداً عنهم ودونهم ولا ينتظرون عودتهم.

والبداية كانت.. في وادي رم؛ حيث اتخذت بسيسو وبطلتها عائشة بقعة مناسبة للتصوير فيه، ولتروي قصتها منطلقة من إدراكها لحكم مجتمعها عليها بـ"العيب" أينما ذهبت وحلّت.

محزن هذا الفيلم، رغم ضحكات بطلته المستمرة طوال الفيلم، فإنه محزن أكثر أن تتربى وتكبر في مكان لم يشغله حضور الأم!

وبشكل عام.. من المحزن أن تشاهد عائشة كارتوناً في التلفاز تظهر فيه البطة وخلفها فراخها ترشدهم لطريق النهر وهي لا أم لها ولا رشيد، وأن تظهر طفلة تبكي من جرح أصابها ضمن إعلان تجاري فتحضنها أمها، وهي لا أم لها أو حضن حقيقي، وأن تشاهد فيلماً يساعد الوالد فيه ابنته لقيادة دراجتها، وأن تخبرها صديقة: والدي يعطيني نصف دينار مصروفي اليومي وهي لا والد لها يعطيها شيئاً أو يساعدها في شيء.

هل كانت تعرف مَن تنادي عندما تستيقظ خائفة في الليل؟ وهل كانت تجد من تشكو له إذا تجاوز طفل آخر حدود اللعب معها إلى الضرب وأخذ لعبتها؟ كيف عاشت عائشة دون صراخ وقسوة ومحاسبة الأم؟ دون أن تعاقبها أمها ودون أن تحط كفها الكبير على كفها الصغير بداعي الضرب كيفما كان، كيف لم تفهم متى تغضب أمها؟ كيف لم تلمح نظرة وعيد في عين أمها؟ كل شيء تفعله الأم سكر، كل غضب منها هو سكر، كل صفعة منها هي سكر.

هل كانت تدرك كم هو محزن كونها طفلة تعيش في دار رعاية؟ ولكن المحزن أكثر معرفة أن والديها أحياء تركاها لتحيا بعيداً عنهما!

كم أحزنني وأبكاني عندما قالت: "عندما كان عمري ست سنوات تقريبا"، لم يتقبل عقلي كأم كيف أن طفلة في مثل عمر ابنتي تعيش في مكان ليس اسمه منزل يرعاها فيه أفرادٌ تقدموا لوظيفة الرعاية مقابل المال أو تطوعاً إلا والديها أو أحد من عائلتها، أقصى حلمها ضفيرة لم تجرب طعام والدتها مرةً، ويشتد عليها المرض دون أن تلمح خوف والدها بينما يضع على جبينها ميزان الحرارة، وتتعلم أن تضع كلمة family في جملة مفيدة دون أن تملكها، وتتربى حسب مزاج، وقدرات، ونزوات، وميول، ومعتقدات مربياتها في الدار، وتخطئ، وتُوبخ، وتسمع تكبيرات العيد، وتضحك من حازوقتها، وتبكي على قطة صدمتها سيارة، وتغفو على وسادة باردة رمادية المشاعر والذكريات، وتسأل عن الجنة والنار؟.. دون أم.

مرهقة هذه الحقيقة وهذا الواقع، وإن كنا نحن نصاب بالصدمة بضع مرات في حياتنا، فصدمات من هم مثل عائشة ولدت معهم ولن تتوقف.

تتابع عائشة أنه عندما كان عمرها ست سنوات تقريباً أحبت إحدى المربيات كثيراً "مس جمانة"؛ لأنها كانت أول إنسان يقول لها إنها ذكية! أحبتها بشدة وفي يوم سفرها لانتهاء مدة عملها في الدار حزنت عائشة وبكت لدرجة الإغماء.. فلا تتخيل أن هذه القصة التي يرويها الفيلم الوثائقي تشبه أفلام السينما في مشهد تطير فيه الطائرة التي تقل "مس جمانة" في نفس الوقت الذي تفقد فيه عائشة وعيها لتستقر ليلتها وحيدة ومريضة في المستشفى، بينما تستقر "مس جمانة" بين أحضان عائلتها ومحبيها، بل المشهد أكثر ألماً من ذلك على حد وصف عائشة.

وفي مشهد آخر تتحدث عائشة عن نيلها لعقاب الحرمان من الطعام طوال يوم كامل لعدم طويها الغسيل هي وصديقتها، وعندما لاحظت وجود رغيف خبز على حافة إحدى النوافذ في الدار تسللت ليلاً لأخذه -ولن أستخدم كلمة لسرقته- وكمشهد سينمائي آخر تتابع عائشة حديثها: إنه فعلاً كمشهدٍ سينمائي أسرعت فيه لأتقاسم رغيف الخبز مع صديقتي، وبينما أنا كذلك تضبطني إحدى المربيات دون أن نحظى بكسرة واحدة من الخبز وتشتمني وتضربني في زاوية قريبة من باب يتكسر فيه الزجاج على ظهري ويترك ندباته حتى يومي هذا.

الفيلم الذي تتحدث فيه عن حياتها وكأنها فيلم فعلاً ليختصرها في دقائق حتى أصبحت في عقدها الثالث، قد مرت مراحل تصويره بمراحل تشبه إلى حد كبير مراحل كثيرة في حياة الإنسان من: يأس، وإرهاق، وعدم القدرة على المواصلة، وخوف، وأمل، وتشاؤم، فلولا قرار العودة من إسبانيا الذي اتخذته بسيسو في مرحلة حاسمة لما استطاعت أن تكمل تصوير فيلمها بعد أن أوشكت مثبطات الواقع النيل من عزيمتها.

لا تتخيل أن عائشة تشبه شخصية الكارتون "سالي" في انكسارها أو لطفها، وهي ليست منزهة عن الأخطاء والشقاوة، ولا تعيش مطأطأة الرأس مدمعة العين والقلب؛ بل هي ربما ترفض الاستحمام في ليلة باردة، وترفض القيام بواجباتها المدرسية والموكلة إليها في الدار وتتطاول في لسانها وربما يدها، كأي طفل آخر، كأي طفل آخر إلا أن من يتعامل مع ذلك ويسيطر عليه هو ليس والدتها، أو أحد من عائلتها.

تكبر عائشة وتتزوج ثم تنفصل عن زوجها المتزوج الذي يقرر العودة لعائلته، يبدو الأمر أن كل من حولها يتركها ليعود لعائلته، ورغم أنها هي الأخرى تمتلك عائلة، فإنها لا تعود إلا للرحيل من منزل لآخر تجاوز عددهم اثني عشر منزلاً، هذا غير دور الرعاية التي تنقلت بينها.

في تسجيل قديم وظَّفته بسيسو في أحد مشاهد الفيلم يظهر ملك الأردن الحسين بن طلال الراحل وزوجته الملكة نور في زيارة لدار رعاية كانت تسكنها، يعطف ويهتم الملك لأمرهم فيأمر بنقلهم إلى قصر دار البر.. تقول عائشة: "اختلفت الحياة هناك كالاختلاف بين السماء والأرض"؛ حيث تم الاهتمام بتعلم اللغة الإنكليزية بشكل أكبر، كما أن الاهتمام بالنظافة أكثر، والنظام والمعاملة أفضل، ولكن بعد مدة تعود إلى ما كانت عليه وتبدأ مشوار اليتم في دار أخرى تفترق فيها عن شقيقتها التي كانت معها، حسب قولها.

ما زالت تكبر وتفكر بأن تدرس علم النفس، تلتحق بجامعة معروفة بأقساطها المرتفعة، تنهي دراستها، وتعمل في مؤسسة لرعاية الأطفال، تترك العمل وتقرر السفر، وهنا ينتهي الفيلم.

لتظهر نتيجة جهد بسيسو طوال خمس سنوات امتزجت فيها العلاقة الشخصية مع عملها كمخرجة عزمت على تقديم فيلماً وثائقياً ناجحاً.
وكمرجوحة تعلو لتعود مكانها، في تعقيدات أخرى لا بد لذكرها روتها لنا عائشة داخل الفيلم، عندما شاءت الأقدار لها أن تحظى بمساعدة فاعلة خير تستأجر شقة يشاركها السكن فيها أكثر من صديقة قدمن معها من دار الرعاية، وبعد مدة طُلب منهن مغادرة الشقة؛ لأن فاعلة الخير كفَّت عن فعل الخير هذا مع بنات "تخرّجن" في دور رعاية.

تذكر حينها كيف أن إعلامياً أردنياً معروفاً بتقديم برامج خدماتية اشترط عليها الرقص أمامه مقابل نقل قصتها هي وصديقاتها لصديقه الوزير، في ذلك الوقت الذي من المفترض أن ينظر في حالتهن ويقدم لهن أفضل المستطاع بما فيه الدعم المادي، ولكن.. تعود عائشة لتسكن الوحدة في منزل صغير، هي اليوم تدرك أن طفولتها كانت…، أنه كان من المفروض والممكن والمحق لها أن تعيش مع عائلتها، فإلى متى ستظل حقائب الوحدة هذه ترافقها؟

إلا أن السؤال الذي من المفترض أن نسأله ماذا بعد "لسَّه عايشة"؟ عائشة ربما أصبحت فتاة مشهورة على نطاق ضيق يختص بكل من شاهد الفيلم وعمل فيه، لا يسع حياة عائشة فيلم واحد، كما لا يسع بسيسو أن يصل هذا الفيلم لأكثر من رف دار عرض عربي وغربي، ويحصد جائزة مهرجان مالمو في السويد كأفضل فيلم وثائقي عربي لعام 2016، ويحظى بتصفيق حار رافق الشاشة السوداء في النهاية.

بعد أن ينتهي العرض، يتوقف الإطراء، والمديح، والتشجيع، والتعليق، والتشويق، وتعود عائشة والملايين مثلها إلى ذاكرتهم القديمة، عندما كانوا أطفالاً.. بماذا كانوا يحلمون؟

إذا أردت الإجابة اسأل عن الفيلم.. أو حتى اسأل عائشة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد