نعم، أنا الشابُ العشرينيّ الشغوفُ بعلومِ الهندسة الكهربية، وخصوصاً الاتصالات والنبائط الإلكترونية، أحب الخروج من ضيق "تايلور" إلى رحاب "ماكلورين"، وأقتفي آثار "ماكسويل"، وأطلب علوم النبائط والإلكترونات من "رازافي"، وأكثِرُ من استخدام تحويلات "لابلاس" و"فورير"، وكم تمنيت لو أشدّ الرحال لمعهد ماساشوستس للتقنية أو جامعة كاليفورنيا فرع لوس أنجليس.
وكذا أنا الشاب الشغوف بمعرفة كلام العرب وأشعارهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم، أعتز بهويتي الإسلامية وثقافتي العربية، أعرف أنّ "كلامنا لفظ مفيد كاستقم"، كما علمني ابن مالك في مطلع ألفيته، وأحب دروس شيخ البلاغة محمد محمد أبوموسى، وهو يشرح كتاب دلائل الإعجاز لمولانا عبدالقاهر الجرجاني.
أعترف أنّ تلك الهوية فُرضت عليَّ فرضاً، فلقد نشأت في بيئة تتحدث العربية، وتدين بالإسلام، وتتقلدّ بعادات أهل مصر خاصةً، والعرب عامّة.
مع هذا، أعترف لك يا صديقي أنّي اختبرت هُويّات وثقافاتِ وعاداتِ كثير من الأمم التي تعيش معنا على نفس البسيطة، فملامح أهل الشرق من الأفارقة الإريتريين والإثيوبيين مألوفة لديّ، وتعايشت مع أهل السنغال وبوركينافاسو سنة من عمري، ولا أنسى بحثي عن بحر دماء الهوتو والتوتسي في رواندا وأنا بعمر تسع سنوات بالصف الرابع الابتدائي، وأتضامن مع قضايا الفيلة في ساحل العاج وأقف حداداً لضحايا عصابات الماس في سيراليون وأثني إعجاباً لنهضة الجنوب الإفريقىّ.
أنا على معرفة كبيرة بلغة الإنجليز وثقافتهم، وأحسِنُ تقديرَ كلام الفرنسيس وطبائعهم، وأفك طلاسم الألمان وآلف كثرة "الخاء" و"الشين" في حروفهم، أحب فارسَ وموسيقاهم وآدابهم، أطربُ لأحاديث الهندِ وأعاجيبهم، أقف احترماً لما أعرف من التزام اليابان ودقة صنعتهم؛ وأهتزُ لوقع "سامبا" البرازيل، وأتحسس أخبار فلسطينيّ هندوراس، وأعجبُ لأنفةِ أهل مقاطعة كيبك في كندا، ويستفزني شكل دخان الشواءِ لحيوانِ الرّنة في براري سيبيريا البيضاء.
أعرف عن الماشيح وقرأت نصوصاً من المشناة والتلمود… أحفظ "آيات" من إنجيل "متى" و"نشيد الإنشاد" وأعرف من سير مارجرجس ويوحنّا الدمشقيّ وكتبِه، على دراية بمعظم ملل ونِحلِ أهل الكتاب من الكلدانيين والسبتيين وشهودِ يهوه والأرمن والكاثوليك، درست بعضاً من الأحوال الشخصية لأرثوذكس المسيحية من أتباع الكرسي الرسولي المرقصي؛ وها أنا أستطيع أن أفرّق بين الزنا الحقيقي والزنا الحكمي وأحكامهما.
عرّجت على كثير من الثقافات برغم سنيّ الصغيرة، ما هنأت الروح بغير تعاليم الإسلام، وجدت ألفة وراحة بغير الثقافة العربية واللسان العربي والثقافة الإسلامية الأصيلة.
تطوافة لم تأخذ يوماً أو اثنين بل شهوراً وسنين؛ تطوافة وثقافة تجعلني أبدو في أغلب الأحايين غريباً بين أقراني وأخداني في طريقة إخراجي للحروف واختياري للكلمات وطبيعة الاهتمامات، ربما أشفق عليهم تارةً من فرطِ بعدهم عن السليقة العربية، وأشفق على نفسى تارة أخرى مما يصيبني من غثيان بينما أقرأ عربيةً مسخاً تعارفوا عليها بالـ"فرانكو".
نعم، أنا الشابّ العشريني الذي يدرس الهندسة بطريقة الفرنج والأعاجم ويتقفّى أرفع الدرجات في علوم الاتصالات والنبائط الإلكترونيّة، لكني الشاب العشرينيّ الذي يحفظ كثيراً من أشعار العرب، وأيامهم ووقائعهم، أنا سليل الحداثيين، ولا أدري ما رتبة جيلي وسطهم، لكننّي أهتم بدراسة الأدب العربيّ والثقافة الإسلامية الأصيلة.
أحب أن أتأدب بمواعظ أبيات لاميّة الشنفرى، شغوف بمغازي عنترة، أحسدُ ليلى على ما وجدت من قيسها، وأشفق على قيس لمّا قبض على نار بيده حتى فقد وعيه عندما استحلفَ زوجها ورداً بربه هل قبّل فاها وهل رفّت عليه قرون ليلى رفيفَ الأقحوانة في نداها، أحبّ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلياً والزبير وآل الزبير كلهم.
تعلّمت كثيراً من قصة سيدنا عبدالله الحمار الصحابيّ بألا أصدر الأحكام المسبقة على غيري؛ فلعله مبتلى، أتنبه لآراء الفقهاء في المسألة الواحدة وأحب أن أرجع الأمور إلى أصلها، مثل: "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم ينزّل نص، والأصل في العبادات التحريم ما لم ينزّل نص"، أقتدي بهدي ابن حنبل لما قال: "مع المحبرة إلى المقبرة"، وأعمد إلى أسلوب أبي حامد الغزالي في "الإحياء" عند الكتابة، حتّى في التندر مع الأصدقاء عندما أشكو لهم كدرَ طلب العلم أمازحهم بما كان يفعل ابن عقيل الحنبلي صاحب كتاب الفنون، عندما يشعر بالكدر من طلب العلم.
لا أحد يختار الحب؛ ولا أحد يُجبَرَ عليه.
أعترف أنّي أعشق الحرف العربيّ، رسماً وعلماً.
وألتزم بالأصل الإسلامي، خلقاً وفقهاً.
أشعرُ أنّه نظام محكمٌ ينظمُ كافة مضارب الحياة ويهذب الروح ويمس شغافَ القلب ويبعث في النفس السكينة والطمأنينة والوقار وأيضاً يبعث على العزّة والأنفة.
أقطعُ أنّي لم أذق صنوف المعارف من لدن آدم إلى وقتنا هذا؛ لكنّ بما اختبرته من ألوان العلوم الطبيعية والإنسانية: أنا أفخر بنسبي وحسبي إلى اللسان العربي والمرجع الإسلاميّ السنيّ. مع الإقرار بالتفاضل بالتقوى فيما بين العربي والأعجمي؛ فكم من الحب صنع أربطة تقوى من الأرض تصل لعنان السماء؛ فنعمة اللسان العربيّ أنعمها الله عليّ ليبلوني أأشكر أم أكفر.
فليت شعري أن أصلَ بهذا إلى كلِ صاحب لسانٍ عربيّ، الدّر كامنٌ في هويتنا، لكن معظمنا بكل أسفٍ ينبهر بهويات غيره حتى ينسى نفسه.
فكل كلامنا لفظ مفيد كاستقم.. اسم وفعل ثمّ حرف الكلمِ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.