متانة وقوة الروابط الاجتماعية كانت من أبرز الخصال التي تتميز بها الشعوب العربية عن غيرها من شعوب العالم، إلا أنه وفي الآونة الأخيرة باتت تتكشف أرقام وإحصائيات تشير إلى انحسار بمعدل الأواصر وتراجع حاد بقيم التكافل والتواصل الأسري وارتفاع بنسب التفكك والتشرذم.
المتتبع لتقارير تصدرها منظمات المجتمع المدني وأخرى أممية، تدفع بالمرء للظن بأن الدول العربية اليوم في سباق محموم حول أيها تسجل أكبر رقم قياسي بمعدل نسب الطلاق ضمن مجتمعاتها، ويكفينا أن نعلم أن المتوسط العام وصل لحالة طلاق كل عشر دقائق تقريباً في معظم البلدان العربية، وهو رقم كفيل ليجعلنا ندرك حجم الكارثة، خاصة أن نسب العنوسة قد ازدادت بالمقابل وسجلت نحو 85%.
إحصاء حديث، أعدّه مركز أبحاث "ميسود أند سليوشن" للدراسات والأبحاث، أشار إلى أن عدد العوانس في الوطن العربي بلغ 13 مليوناً، فيما سجل عدد حالات الطلاق 410 حالات يومياً، لافتاً إلى أن عدد العوانس من الفتيات يصل إلى 5 ملايين، وعدد العزاب من الرجال 8 ملايين.
أما البحوث والمقالات العربية، فآلاف منها تناولت هذا الشأن بطريقة لا تخلو من البروباغندا عبر سردٍ لتحليلات معظمها لم يلامس الواقع واكتفى بالعزف على ناقوس الخطر لمغازلة العواطف واستدراج أكبر عدد ممكن من القراء لينهالوا على الكاتب بالتصفيق والتهليل، فضلاً عن أولئك الذين يلجأون للاستشهاد بآراء مختصين اجتماعيين معظمهم يغردون بما جاء ضمن أوهام الدولة الأفلاطونية الفاضلة.
المصاب كبير، والحلول تكاد تكون صفراً على الشمال، فشعوبنا العربية التي تعاني أساساً من فجوة ونقص بالحنان والشعور بالطمأنينة، جعل الكثير من أفرادها شبه سذج وهائمين خلف لذة غير مباحة بالتزامن مع تسلط حكومات جل همها المحافظة على عروشها، ولا يضرها توفير كل أشكال الرفاهية لإشغال الناس، فضلاً عن تغول الأحزاب الدينية التي وجدت ضالتها في فرض نفسها، مستغلة الشذوذ البيئي والزماني والمكاني الذي تمر به المنطقة.
طبيعة المتغيرات التي طرأت على المجتمعات العربية خلال العقدين الأخيرين من الزمن، فرضت على الفرد الانتقال خلال فترة وجيزة جداً بين بيئتين مختلفتين تماماً، أي من مجتمع منغلق، إلى مجتمع منفتح بشكل كامل ودون أي تمهيد أو تدرج، وهذا الانتقال تسبب بإلغاء الطبقة الوسطى التي تعد العمود الأساسي للمجتمعات وسر توازنها.
عصف الثورة التقنية وغزوها لبلداننا دون دراسة وتتبع عبر تسهيلات منحتها الحكومات تحت بند الانفتاح على العالم وتلقي الثقافة العصرية، كان لها الأثر الأكبر في انصهار وذوبان الأعراف والتقاليد التي رافقت فترة من ردود فعل شعبية صوب كل ما يتعلق بالدين، عكست حالة من الازدراء والتشنج تسببت بها سلوكيات لأفراد وجماعات ارتبطت نشاطاتهم بالمذهب والعقيدة.
ووسط كل ذلك، فقد أسهم أيضاً ارتفاع نسب البطالة في بلداننا العربية التي بلغت ما يقارب الـ35% في بعضها، وعجز شريحة كبيرة من الشباب عن الزواج، فضلاً عن العنف المجتمعي، وتفشي ظاهرة تناول المخدرات، كلها وغيرها أسباب دفعت للهروب من الواقع، ما شجع على انتشار عادات غريبة وسط مجتمعاتنا التي كانت للقنوات الفضائية وسهولة حيازة أجهزة الأندرويد بمتصفحات الإنترنت فيها، وسائل سلسة وميسرة للتواصل بين ثقافات متناقضة، خصوصاً بين صفوف الشبان والمراهقين، وكل هذا يجري دون رقابة أو حواجز أو أدوات حجب للممنوع والمرفوض، لتحوز عشرة بلدانٍ عربية وعبر الاستعانة بأشهر مواقع التحليل على مراتب أولى ومتقدمة في عدد الزوار المستخدمين للمواقع الإباحية؛ لتأتي إيران في المرتبة الثانية بعد أميركا المصنع والمصدر للأفلام الخليعة، ثم الإمارات ومصر والبحرين والكويت، تليها قطر ثم السعودية في المرتبة الحادية عشرة.
الأرقام صادمة ومخيفة؛ حيث تبين أن أكثر من 28 ألف مستخدم إنترنت يتصفحون مواقع إباحية في كل ثانية، ليصل عدد مرات البحث عن المواقع الإباحية بمحركات البحث ما يقارب الـ68 مليون طلب يومياً، وللدول العربية حصة الأسد منها، فيما يبلغ إجمالي عدد النساء المتصفحات لهذه المواقع نحو 9.4 ملايين امرأة شهرياً، أي أن نحو 23% من زوار الموقع الإباحية هن من النساء، فضلاً عن أن عدد النساء من زوار غرف الدردشة هو ضعف عدد الرجال.
هذا الأمر دفعني لخوض التجربة شخصياً؛ حيث دخلت لعدد من غرف الدردشة بأسماء مختلفة، فوجدت أن أكثر روادها هم ما بين أعمار الـ17 و35 عاماً، معظمهم عانوا من تجارب عاطفية فاشلة، فيما يبحث آخرون عن علاقات غرامية تشابه ما يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات التركية خصوصاً.
ومن خلال القياس والمقارنة، فلا يمكن الجزم بأن انعدام الأجواء العاطفية والرومانسية كان السبب الرئيسي لتفشي ظاهرة الانحلال الأخلاقي وزيادة نسب الطلاق في بلداننا العربية، ففي فرنسا البلد المشهور بأجوائه الشاعرية، سجلت هذه الدولة أعلى نسبة طلاق عام 2015، فكيف ببلداننا العربية المتناقضة بظروفها، فمنها تلك التي طغت عليها أجواء الدم والاقتتال والصراعات، فيما سجلت أخرى مقاييس عالية من الاستقرار السياسي والاقتصادي التي لم تكن بالضرورة حائلاً دون الرغبة في تغيير الكثير منهم لواقعهم، فبالنسبة لدول الخليج، وبحسب إحصائيات لإذاعة هولندية برصد نسب العنوسة في الوطن العربي، فقد تصدّرت الإمارات معدّلي الطلاق والعنوسة؛ إذ بلغت حالات الطلاق 40%، فيما سجلت العنوسة 60%، وحلّت قطر في المركز الثاني خليجياً في الطلاق، بمعدّل 38%، فيما العنوسة 15%، وكانت نسبة الطلاق في الكويت 35%، ونسبة العوانس 18%، كما بلغت نسبة الطلاق في البحرين 34%، و20% من نسائها عوانس، بينما حلت عُمان في ذيل اللائحة الخليجية 29% طلاق و17% عوانس، أما العراق فحدِّث ولا حرج، فنسبة العنوسة فيه بلغت 85%، فيما أكدت بيانات صادرة عن وزارة العدل أن هناك حالة طلاق كل عشر دقائق، أما سوريا وبسبب شبه انعدام الدور المؤسساتي في البلاد، فقد أكدت مراكز معنية بشؤون اللاجئين أن نسبة كبيرة من السوريين في أوربا اختاروا الطلاق والانفصال عن بعض بعد رحلة طويلة من الشقاء والمعاناة.
في النهاية، يتحمل الإعلام قدراً كبيراً من المسؤولية في تخريب المجتمعات، وذلك نتيجة لابتعاده عن تناول قضايا الواقع والتوجه نحو طرح مضامين تملأها الأوهام والأحلام الوردية، التي أفرزت متلقين يبحثون عن سراب المثالية والكمال فيما ينسلون يوماً بعد آخر عن مجتمعاتهم وينعزلون عن أسرهم؛ لتتولد فجوة مفعمة بالكراهية تزداد مساحتها يوماً بعد آخر؛ لتنتهي إما بالطلاق أو الخيانة الزوجية.
الغريب في الأمر أن التفكك الأسري في مجتمعاتنا جاء مرافقاً مع ما قيل بأنه مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يروم تقسيم المقسَّم وتجزئة المجزَّأ، علماً أن الآثار السلبية لحالة التراجع الأخلاقي لبلداننا ستنعكس على عدد من الأجيال القادمة، وهو ليس بالسرطان الذي يمكن بتره بسهولة بعد تشخيصه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.