رحلتي من الطب إلى الإعلام (3)| سَنَتِي الْأُولَى فِي الطِّبِّ.. وَالطَّبِّ

لغتي التركية تحسنت كثيرًا والتفاعل داخل الدرس أصبح أفضل بكثير، الوضع من بعيد يبدو جيدًا إلا أن المعضلة الحقيقية التي ترافقني منذ 3 سنوات وأكثر هو الشغف والاقتناع بالذي أفعله في صالة المهرجانات الكبيرة هذه، التي يطلقون عليها قاعة محاضرات كلية الطب.

عربي بوست
تم النشر: 2017/10/02 الساعة 08:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/10/02 الساعة 08:57 بتوقيت غرينتش

بعد التدوينة الماضية أُكمل لكم قصتي..

استعداداتٌ للرحيل..

هذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها من غير "تيكت الرَّجْعة". بالأحرى لم أحجز تذكرة الذهاب لأن السفر حينها كان بالبر وليس جوًّا. كان الانطلاق من لبنان إلى العاصمة أنقرة مرورًا بالساحل السوري، استغرقت الرحلة 16 ساعة تقريبًا، وكانت هذه الرحلة بداية فصل جديد من حياتي، ما زلْتُ أتذكرُ الكثيرَ من تفاصيل ذلك اليوم على الرغم من ذاكرتي الضعيفة.

كانت السنة الأولى لدراسة اللغة التركية فقط، لم يكن هناك الكثير من المنغصات في حياتي حينها، باستثناء عطب أصابني في ركبتي، ما زلت أتحمل تبعاته حتى اللحظة، ولن أخوض في التفاصيل الآن، فهذه السنة المميزة في حياتي سيكون لها تدوينات منفصلة.

انقضت سنة دراسة اللغة التركية وآن الأوان للرحيل إلى إسطنبول، كنت قد زرتها سائحًا قبل بضعة أشهر وقد شغفتني حبًّا، سَلَبَتْ مني العقل وأردَتْنِي مصروعًا بجمال كل تفصيل فيها.

أما الآن فإني مقيم بها، لم أعد أشعر بما شعرت به سابقًا، كان كل شيء قد تغير بالنسبة لي، أتيت هذه المدينة قاصدًا الدراسة بعد سنة من النقاهة كما كنت أعتبرها عندما أحدث أصحابي، عودة إلى الدراسة "الفعلية" بعد انقطاع دام أكثر من سنة تقريبًا، لكن المأزق الراهن أكبر من سابقه، فالدراسة اليوم باللغة التركية.

لا أريد أن أخبركم عن حجم كآبتي قبل الذهاب إلى الكلية بأيام، لم أكن أعرف السبب، هل الخوف من المجهول فقط؟ أم أن هناك سببًا آخر؟ كنت أكابر وأرفض الاعتراف فالوقت ما زال مبكرًا جدًّا، ولا أريد لوساوس الشيطان أن تحيدني عن طريقي.

أتممت معادلة الشهادة الثانوية ثم التسجيل في الوزارة ثم السكن الجامعي ثم الجامعة. هذه الجملة المكونة من بضع كلمات استغرقت أيامًا عديدة وساعاتٍ طويلةً من الانتظار والازدحام؛ فعند كل مكتب يوجد طابور طويلٌ لا يُخيَّل إليك أنه سينتهي قبل يوم القيامة، وكان آخرها طابور التسجيل في الكلية واستلام الملفات التعريفية والبرنامج السنوي، والأهم من هذا كله هو استلام "المريول" الأبيض ذي الجيب الواسع مطبوع عليه شعار كلية الطب في جامعة إسطنبول.

ما زلت أتذكر اليوم الأول في الكلية عندما تأخرت نصف ساعة تقريبًا وأنا أبحث عن القاعة؛ فالمستشفى الجامعي يحتوي على الكثير من قاعات المحاضرات، ولم أكن أتصور أن الأمر بهذا التعقيد، ذُهِلْتُ عندما دَخَلْتُ أوَّلَ مرَّة، القاعة أكبر من أي صالة قد رأيتها في حياتي؛ حسبت نفسي أني دخلت صالة مهرجانات، بيد أن سكوت الطلاب وارتفاع صوت المحاضر يؤكد أن الدروس ستكون هنا، أكثر من 460 طالبًا في القاعة الواحدة، كانت هذه هي الصدمة الأولى، ولم يمض وقت طويل حتى تلقيت الثانية والثالثة حتى الألف.

الكثير من علامات الاستفهام تدور في رأسي وتزداد كل يوم مع ازدياد عدد الدروس والمحاضرات والمتطلبات في الجامعة، كنتُ حريصًا على حضور جميع الدروس بلا استثناء على الرغم من أن الحضور غير إلزامي، ولا يوجد ما تخسره فعليًّا في غيابك، كانت هذه الصدمة الثانية، فالوضع السيء الذي تركته في لبنان كان أفضل مما هو موجود هنا، عدد الطلاب أكبر والمقررات جامدة تعتمد على الحفظ لا الفهم.

الصدمة الثالثة كانت بعد شهر أو أكثر بقليل عندما قررت إدارة الجامعة تغيير نظام النجاح واحتساب العلامات، بدا الأمر أكثر صعوبة بكثير مما كان الوضع عليه، وكانت اعتراضات واسعة من الطلاب والأساتذة على هذا القرار، وانتهى المطاف بعد فترة طويلة إلى توليفة جديدة من نظام لم أشهد له مثيلًا من التعقيد و"الفذلكة". لم تكن هذه التغييرات في صالحي، فالأمر يزداد صعوبة ومواعيد الامتحانات تقترب أكثر فأكثر.

كانت الحياة شبيهة إلى حدٍّ ما بالتي كانت في بيروت، دراسة ونوم وبعض الوقت لتناول الطعام، الطعام هنا اختلف كثيرًا، عندما كنت في لبنان كانت ثلاجتي مليئة بأطباق الطعام التي أعدتها أمي لي خصيصًا، أما هنا في السكن الجامعي فالأمر مختلف جدًّا، الطعام هو الشكل لا المذاق.

الصدمة الرابعة كانت نتائج الامتحانات الجزئية الأولى في كلية الطب، لم تكن النتائج متوقعة قط؛ فالجهد المبذول لا تترجمه النتائج المعلقة على جداريات الكلية، درجات الكلية المتدنية مع درجات الحرارة المتدنية أيضًا دفعتني للتركيز أكثر في الدراسة وإعطائها الوقت كاملًا، لا أتذكر صراحةً شيئًا غيرَ هذا، وأمضيْتُ أسابيع طويلة في السكن الجامعي لا أخرج منه إلا للذهاب إلى الكلية المتواجدة بالقرب منا أو إلى بائع الأرز والفاصوليا الذي كان يبعد عنا حوالي كيلومتر واحد فقط.

هل أخبركم عن الصدمة الخامسة؟

إن اللبيب بالاشارة يفهم..

إنها درجات الكلية من جديد، لكن نصف السنة قد انقضى، ولم يتبق وقت كثير.

على الرغم من قتامة المشهد إلا أنه لم يكن سوداويًّا، فالدرجات المتدنية ليستْ رُسُوبًا، فأنا ناجح بشكل مشروط، والشرط الوحيد هو تسوية المعدل العام نهاية السنة، وهذا أمر مقبول نسبيًّا ومقدورٌ عليه منطقيًّا.

أتت العطلة النصفية، وسافرت إلى لبنان لقضاء إجازة سريعة لم أحدث فيها أحدًا عما جرى لي وما اعتراني من مشاعر في إسطنبول، ثم عدت بعد قضاء العطلة وكُلِّي حماسةٌ لأجتاز جميع المقررات الدراسية لهذه السنة، وهذا أمر سهل ومنطقي جدًّا، كيف لا وقد اجتزتها في لبنان سابقًا ومعي بذلك شاهد ودليلُ؟

بدأ الطقس بالتحسن والنهار يطول وهذا يعطيني دفعة جيدةٌ كبيرة، كما أني اشترَكْتُ في نادٍ رياضي محاولًا تخطي أزمة "الرُّكْبَة" التي أرهقتني كثيرًا للسنة الثانية على التوالي، خاصة مع تَكرار الضربات على الموضع نفسه.

بدأ الأمر جميلًا أكثرَ بكثير، وإسطنبول بدأت تتزين بزهورها وتنتعش بحيويتها، إذن هي عودة إلى الآن إلى الدراسة المكثفة والأمل بتجاوز هذا العام بكل عزم وإصرار.

لغتي التركية تحسنت كثيرًا والتفاعل داخل الدرس أصبح أفضل بكثير، الوضع من بعيد يبدو جيدًا إلا أن المعضلة الحقيقية التي ترافقني منذ 3 سنوات وأكثر هو الشغف والاقتناع بالذي أفعله في صالة المهرجانات الكبيرة هذه، التي يطلقون عليها قاعة محاضرات كلية الطب.

اقتربت الامتحانات كالعادة والمواد تزداد صعوبة بالنسبة لذاكرتي التي تشبه ذاكرة الأسماك، كنتُ أعاني كثيرًا من هذا الموضوع، لكني لم أكن منتبهًا لذلك، مع اقتراب الخطر أصبحْتُ بحاجةٍ لمزيد من الدعم المعنوي، إنه صديقي عبد الله الذي كنت أذهب معه مساءً لتناول شاورما "دونر" التركية الذي يشاركني نفس الهواجس، نحاول تشجيع بعضِنا على الدراسة والمواظبة على متابعة المحاضرات.

إكراه النفس على فعل الأمر ذاته لأسابيع وأشهر عديدة لا يعود بالنفع على صاحبها

هذا ما حصل معي في الامتحانات الجزئية للفصل الثاني، لكن هذه المرة لم تكن صدمة فكان الأمر معقولًا ومنطقيًّا، استمر الوضع بتدهور داخل الكلية، أما في الخارج فَبَدَتْ الحياة لوهلة ما أفضل مما مضى. نوع من التصالح مع الذات وأن الغد سيكون أفضل، الغد هو السنة القادمة!

لا أنكر أني كنتُ متفوقًا في مادة الرياضيات التي ساعدتني على حساب دقيق للعلامات التي يجب أن أنالها في الامتحان النهائي، كان الأمر تعجيزيًّا نوعًا مَا، استسلمت بعض استسلامٍ ولا أتذكر عدد المواد التي كنتُ قد قدمتُ امتحاناتها، فلم أدخلها كلَّها طالما أن النتيجة محسومة لصالح الأعداء.

هذا الرسوب الأول لي في حياتي الدراسية! والأغرب من ذلك أني صنعته بيدي! فماذا فعلتُ في السنة التي تليها لتصحيح المسير؟ دعوني أحدثكم عن ذلك في المدونة القادمة.

– تم نشر هذه التدوينة في موقع زدني

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد