3ـ كما أن من سلوك المسلم إذا ما عاهد أحداً وفّى بعهده، وإن اشتمل عقد الوفاء ببعض الظلم له، فقد قبل بعقد المواطنة في بلاد الغرب، وأعطى الإقامة أو الجنسية بناء على ذلك، فوجب عليه الوفاء بما اتفق عليه، وخير مثال لذلك ما حدث مع الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يقول عن سبب غيابه عن غزوة بدر، وهي أولى معارك الإسلام المهمة، التي سماها القرآن: (يوم الفرقان)، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعنا أن نشهد بدراً إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذتنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً، فقلنا: ما نريده، إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيرون إلى المدينة، ولا تقاتلوا مع محمد -صلى الله عليه وسلم- فلما جاوزناهم أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرنا له ما قالوا وما قلنا لهم، فما ترى؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "نستعين اللهَ عليهم، ونفي بعهدهم"، فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدراً.
فلنتأمل العهد الذي أخذه المشركون على حذيفة وأبيه: (فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه)، وعندما وصلا المدينة، كان جيش المسلمين يتجهز للقتال، وهم في أمسِّ الحاجة إليهما، وقد كان لهما أن يأخذا برخصة أنه موقف مع كفار محاربين، لكنه موقف احتاج إلى الوفاء بالعهد، لا الأخذ برخصة تضر بسمعة الإسلام، فقال لهما صلى الله عليه وسلم: "نستعين الله عليهم، ونفي بعهدهم"، وفي رواية: "انصرفا نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم"، فالمتأمل في الحديث هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الانصراف أمرهما بصيغة المثنى: انصرفا، فأمر الانصراف خاص بحذيفة وأبيه فقط، أما الوفاء بعهد المشركين لم يقل -صلى الله عليه وسلم-: تفيا بعهدكما، بل قال (ونفي) بالجمع لا التثنية، لأن الموقف هنا يمثل المسلمين جميعاً، وهو ما يجعل كل مسلم لا يحكم على أي تصرف يفعله وحده، أنه تصرف فردي يمثله، فهذا خطأ، إنما ينظر المجتمع للمسلم، والمتدين، نظرة مجموع لا نظرة أفراد، نظرة للإسلام لا للمسلمين، فلنكن حذرين في التعامل من هذا المنطلق.
وهو ما أوضحه الشراح والفقهاء من هذا الحديث، يقول ابن هبيرة: (وفيه أيضاً جواز أن يفي الرجل المسلم بما وافقه عليه المشرك؛ إذا كان المسلم في قبضة المشرك، وهذا فهو على طريق الاستحباب.
وفيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نفي بالنون الجامعة ولم يقل لحذيفة: ف لهم بعهدهم؛ لأنه علم أن حذيفة يقف عند ما يأمره به صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضاً من الفقه: أن الوفاء حق للمشرك بمثل هذا العهد الجائز مظنة إعانة الله سبحانه وتعالى لقوله: (نفي لهم ونستعين الله عليهم) .
وقال القاضي عياض: (وفيه وجوب الوفاء بالعهد وإن كان مكرهاً). وقال الإمام النووي مبيناً حكمة أمره -صلى الله عليه وسلم- بالوفاء، رغم أنهم في أمر الجهاد في سبيل الله وهو واجب، ولا يجب عليهم تركه، فقال: (ولكن أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد).
وهو ما فهمه رواة الحديث فقد دلت ترجمتهم (عنونتهم) للحديث على فقههم له، فقد ترجمه مسلم بـ: باب الوفاء بالعهد، وقد ترجمه أبو عوانة بهذا العنوان الدال على فقهه فيه: بيان السنة فيمن يأخذه العدو فيعطيهم عهد الله عز وجل وميثاقه أنه لا يعين عليهم والدليل على إيجاب الأيمان المكرهة. وترجمه ابن أبي شيبة بـ: ما قالوا في العهد يوفى به للمشركين، بل أضاف نصين عن السلف يؤكد فهمهم لهذا النص من موقف حذيفة وأبيه رضي الله عنهما، فأورد ابن أبي شيبة:
أـ أن رجلاً سأل عطاء -رضي الله عنه- عن رجل أسرته (الديلم) فأخذوا منه عهد الله وميثاقه على أن يرسلوه، فإن بعث إليهم بفداء قد سموه فهو بريء، وإن لم يبعث إليهم كان عليه العهد والميثاق أن يرجع إليهم فلم يجد، وكان معسراً، قال: يفي بالعهد، فقال: إنهم أهل شرك، فأبى عطاء إلا أن يفي بالعهد.
ب- وعن ميمون بن مهران، قال: ثلاث يؤدين إلى البر والفاجر: الرحم يوصل برة كانت، أو فاجرة، والأمانة تؤديها إلى البر والفاجر، والعهد يوفى به للبر والفاجر.
4ـ وعن أبي رافع مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بعثتني قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقع في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: "إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع".
يقول الإمام الشوكاني: (أي لا أنقض العهد، من خاس الشيء في الوعاء: إذا فسد، فيه دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار كما يجب للمسلمين، لأن الرسالة تقتضي جواباً يصل على يد الرسول فكان ذلك بمنزلة عقد العهد).
5ـ كان بين معاويةَ -رضي الله عنه- والروم عهدٌ، وكان يسيرُ نحو بلادِهم، حتى إذا انقضى العهدُ غَزاهُم، فجاء رجل على فرسٍ أو بِرْذَونٍ وهو يقولُ: الله أكبرُ، الله أكبرُ، وفاءٌ لا غَدْرٌ، فنظروا فإذا عَمرو بن عَبَسَةَ، فأرسَلَ إليه معاويةُ، فسأله، فقال: سمعتُ رسولَ الله -صلَّى الله عليه وسلم يقولُ-: "مَن كانَ بينهُ وبين قومٍ عهدٌ: فلا يَشُدُّ عُقدةً ولا يحلُّها حتى يَنقضيَ أمَدُها، أو يَنْبِذَ إليهم على سَوَاءٍ "فرجع معاوية".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (ولهذا جاءت السنة بأن كل ما فهم الكافر أنه أمان كان أماناً لئلا يكون مخدوعاً، وإن لم يقصد خدعه). ثم ذكر موقف معاوية -رضي الله عنه- السابق والحديث النبوي الشريف، وقال: (ومعلوم أنه إنما نهى عن ذلك لئلا يكون فيه خديعة بالمعاهدين، إن لم يكن في ذلك مخالفة لما اقتضاه لفظ العهد، فعلم أن مخالفة ما يدل عليه العقد لفظاً، أو عرفاً خديعة وأنه حرام).
ارتباط الوفاء بالعهد بالدين والأمانة بالإيمان:
6ـ كما يربط الإسلام بين العقيدة وثمرتها، وهي الأخلاق، فنفى كمال الإيمان عمن لا أمانة له، ونفى كمال الدين عمن لا يحفظ العهد ويلتزم به، فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ".
قوله: "لا إيمان"، قال السندي: قيل: المراد في الموضعين نفي الكمال، وقيل: معناه: لا إيمان لمن لا يؤدي الأمانة مستحلاً لذلك، ولا دين لمن لا يفي بالعهد مستحلاً لذلك، ثم قيل: المراد بالأمانة أمانة العباد من الودائع وغيرها، وأمانة الله من الصلاة والصوم والزكاة وأمثالها، وحفظ الفرج من الحرام، والجوارح من الآثام، والمراد بالعهد عهد العباد ووعدهم، وعهد الله ووعده، وقيل: هو تغليظ وتشديد كما هو شأن الوعيد، وليس المراد به نفي الإيمان، وقال بعضهم: معنى "لا دين لمن لا عهد له" أي: من جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم غدر من غير عذر شرعي، فدينه ناقص.
وقال الإمام المناوي في تعليل نفي الدين عمن لا عهد له: (لأن الله إنما جعل المؤمن مؤمنا ليأمن الخلق جوره والله عدل لا يجوره وإنما عهد إليه ليخضع له بذلك العهد فيأتمر بأموره).
رواه الحاكم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3/201).
رواه أحمد (23354) ومسلم (1787) عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
انظر: الإفصاح عن معاني الصحاح (2/223).
انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (6/158).
انظر: صحيح مسل بشرح النووي (12/144).
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (33525).
رواه ابن أبي شيبة في المصنف (33526).
رواه أحمد (23857) وأبو داود (2758) والنسائي في "الكبرى" (8621) وابن حبان (4877) عن أبي رافع، وصححه محققو المسند والألباني في صحيح أبي داود.
انظر: نيل الأوطار للشوكاني (8/37).
رواه أحمد (17015)، وابن حبان (4871) وأبو داود (2759) والترمذي (1671)، والنسائي في الكبرى (8679).
انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/21).
رواه أحمد (12383) وأبو يعلى (2863) والطبراني في الأوسط (2627) والقضاعي في مسند الشهاب (849) والبيهقي في السنن الكبرى (6/288) وفي الشعب (4354) والبغوي (38) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وحسن إسناده محققو المسند (19/376) والألباني في صحيح الجامع الصغير (7179).
انظر: حاشية السندي على مسند أحمد، مع تحقيق المسند طبعة الرسالة
(19/377) وشرح المشكاة للطيبي (2/492).
انظر: فيض القدير للمناوي (6/381).