القضاء والتعليم ركيزتان أساسيتان تحددان صلابة الدولة ومدى قابلية نظام حكمها للاستمرار، الكثير من دولنا قد تهتم بإحدى تلك الركيزتين على حساب الأخرى فتكون كمن يبني بيتاً يرتكز على عمودين؛ أحدهما على الصخر والآخر في الطين، فيظل البيت في أي لحظة ودون سابق إنذار آيلاً للسقوط!
الرسائل التي تلقيناها من نظام التعليم السوري:
أتذكر عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، سألت والدي الذي كان يعمل في سلك التعليم: لماذا أنا مضطر إلى أن أدرس كل المواد الدراسية من رياضيات وقراءة وتعبير ورسم وموسيقى ولغة إنكليزية وتاريخ وجغرافيا…إلخ؟! فكان رده بأنني يجب أن أتعرف على الحياة، وأن أتعلم كيف تُلمَّع النعال.. وكان جوابه حينها محيِّراً بالنسبة لطفل وُلد ضمن دولة ذات توجه واحد في كل شيء.
اخترت من جوابه الشق الأول الذي يدور حول التعرف على الحياة، وتركت الشق الثاني يغوص في اللاشعور، وبدأت أكون توجهاتي وآرائي من منهاج التعليم وبناءً على ما خطَّه مجموعة من الكتّاب الذين بقيت أسماؤهم محفورة في ذاكرتي حتى اللحظة؛ لشدة اقتناعي بفكرة أن هذا المنهاج هو نافذتي على العالم المتحضر الذي وضعوه لنا. ومع التقدم في سنوات الدراسة، ازداد عدد المواد المنهجية التي كنا نتلقاها وبدأت عملية بلورة الفكر وصقله ليكون ذا توجه واحد وقناعة واحدة ولا يوجد بديل لها.
ماذا تعلمنا من منهاج التعليم في بلدي؟:
تعلمنا من كتب التاريخ أن الحركة التصحيحية أهم بكثير من الثورة الفرنسية الشعبية، وأن طلائع البعث تشكيل يفوق حجمه وأهدافه طلائع الرايخ الثالث الألماني الذي كان يَعِد بأنه يخلف تاريخياً الإمبراطورية الرومانية، (اخترعنا الكذبة وصدقناها).
علمتنا الجغرافيا أن العرب ملكوا العالم وحكموه وأن الحدود الحديثة اصطنعها الغرب ليحتل الشرق، فاحتفلنا بأمجاد الماضي وفشلنا حاضراً ومستقبلاً.
أما القومية، فأفهمتنا أننا أشرف الأقوام وأطهرهم وأن الوحدة والحرية والاشتراكية تشكل أساساً لكل النظريات، وأننا دائماً ما نتعرض لمؤامرة نتيجة صفاء نسلنا، وتناسَينا أن لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن الشعارات جدران شاهقة يتكسر فوقها تطورنا.
ومن علوم الأحياء، اعتدنا أن نضحك ونسخر إذا ما رأينا شرحاً للجهاز التناسلي عند الإنسان بعد أن كان وجه المدرس يحمرُّ خجلاً وهو واقع بين نارين؛ نار يمثلها (العيب) ونار تمثلها (المعلومة المجردة)، فيطلع علينا بمقولة (لا حياء في العلم)، فلا خرجنا بعلم كافٍ ولا بحياء وافٍ.
أما الرياضيات، فتعلمنا منها أن العددين الفرديين 1+1 يساويان 2، ولكن أثبتت تجاربنا مع المسؤولين في بلادنا أن العملية الحسابية السابقة خاطئة، وأن الفرد لا قيمة له.
فهمنا من كتب المحاسبة أن الميزانيات الضخمة للحكومات تُصرف على قطاعات الدولة المختلفة وأننا دائماً نقع في خانة المدين وأن الغرب هو الدائن، وحين تظهر التقارير التي تؤكد فساد المسؤولين ونهبهم الجزء الأعظم من ثروات الشعب، ينتقلون لتعليمنا مادة التربية الدينية ويؤكدون بكل خشوع فكرة أن "الله يحاسب الجميع".
وأهم شيء تعلمناه في الموسيقى، أن معزوفات بيتهوفن وموزارت لا تُقارن بمعزوفة "حماك الله يا قائد"، وأن الآلات الموسيقية جميعها في كفة والتصفيق الطلائعي المنتهي بكلمة "نشكر نشكر نشكر هيه" بكفة راجحة، علمونا أن الهتاف وصيحات "بالروح وبالدم.." تحتوي على علامات موسيقية وعُرب وانتقال بالمقامات الصوتية، أبحرنا في مقام الهتاف حتى لم ننتبه إلى أننا نغرق في نفوذ مقامات سياداتهم.
أما الرسم، فأخبرونا من خلاله بأن الشيء الوحيد الممتع هو مزج الألوان لينتج لوناً واحداً، هو لون يجب أن نخط منه صوراً للتاريخ وللأجيال القادمة وواجهات للدفاتر المدرسية.. ومن تخصص النحت، تعلمنا كيف نشكل من الجماد انحناءات الوجه وعرض الشنب وطول العباءة، مزجنا الألوان ونحتنا التماثيل ولم ندر حينها أننا نرسم وننحت مصيرنا الأسود!
درسنا ما أرادوه، وعلمت متأخراً ما كان يقصد والدي وأيقنت أن كل دراستي قد اختُصرت في فلك سيادتهم.
فهل بقي في العمر مهلة حتى نتدارك ما نقشوه فينا منذ كنا صغاراً؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.