في لقاء تثقيفي نهاية تسعينيات القرن الماضي سأل أحد شباب الإخوان المسلمين واحدا من القيادات الوسطى "هل ضيع الإخوان فرصة سانحة وأخطأوا حينما أخلوا ميدان عابدين بإشارة من المرشد (عبد القادر عودة) بعدما تجمعوا فيه بكثافة لما قام (جمال عبد الناصر) بالإنقلاب على (محمد نجيب) أول رئيس جمهورية بعد ثورة يوليو 1952 ؟!".
استراح الرجل في جلسته مبتسما وهو يمد رجله اليمنى للأمام ثم أجاب السائل بنظرة شفقة مستنكرا سؤاله "لا يوجد في الإسلام ما يسمى بالفرص الضائعة، إننا بالتأكيد لم نكن جديرين بالنصر حينها فأراد الله أن يبتلينا ليمحصنا وها نحن الآن أفضل حالا مما كنا عليه والأمور كلها تجري بمقادير".
كان أيضا من المستهجن أن يسأل واحدا من هؤلاء الشباب في جلسة أخرى عن رأي الإخوان في (الشيعة) وكيفية التعامل معهم، فكانت الإجابة صادمة من قيادي آخر أن هذا من العلم الذي لاينفع والجهل الذي لايضر وهو من باب إضاعة الوقت، فنحن هنا في (مصر) ليس عندنا شيعة، هذا السؤال قد يكون مناسبا إن سأله أحد من إخوان سوريا أو العراق.
في كلتا الحالتين وغيرهما يلوذ السائل بالصمت، ليس عن اقتناع بالإجابة وإنما ثقة في إخلاص المجيب لدينه ودعوته، وإجلالا لقدره والسنوات التي قضاها معتقلا مبتلا في سبيل الله، فكم لاقى هذا الرجل من البلاء والاضطهاد مالا قبل لمثلي به، فكيف إذا أعترض على إجابته أو حتى أطلب منه مزيد توضيح قد يعكر صفو جلستنا وأخوتنا في الدعوة؟!
لم يكن هذا الشاب يدرك حينها أن إصراره على الحصول على إجابة شافية قد يقي الأمة من شرور جسيمة حدثت بسبب تكرار أخطاء وقعت فيها أكبر جماعة إسلامية في العالم، بل هو نفسه ذاك الشاب الذي حمل صور الأمين العام لحزب الله (حسن نصر الله) زعيم شيعة لبنان في مظاهرات ناصرت بها جماعته الحزب إبان حرب (لبنان – تموز 2006)، قد حرق نفس الصورة بعد ذلك بأقل من عشر سنوات إعتراضا على مشاركة (حزب الله) للنظام السوري في مذابحه ضد المدنيين العزل.
بالطبع تعرض هذا الشاب وغيره من شباب الإخوان إلى انتقادات لاذعة من أقرانه ومعارفه، ليس فقط بسبب هذا الموقف وإنما بسبب مواقف أخرى تبنى فيها قرارات جماعته المتناقضة خاصة بعد ثورة يناير 2011، فبعد أن كانوا يهتفون (الجيش والشعب إيد واحدة) صاروا يهتفون بعد إنقلاب يوليو 2013 (يسقط حكم العسكر)، لكن هذا الشاب كان يجد الملجأ دوما هربا من تلك الانتقادات الحادة في العالم الافتراضي الذي أعد له ولغيره من أفراد الجماعة ليعيشوا به حالة من السلام النفسي والاجتماعي، كي يستمدوا الطاقة اللازمة للمضي قدما في نفس الطريق دون مراجعة لما مضى من أخطاء أو عقبات.
حتى وإن أشرقت في سماوات فشلهم المظلمة تجارب أخرى ناجحة تتشابه في بعض تفاصيلها مع تجربتهم ، حجبوا ضوء الشمس بأيديهم و رفضوا مناقشة تلك التجارب من الأساس وباعدوا بين تفاصيلها وتفاصيلهم، بل قد يذهب بعضهم إلى أن تجربتهم هي التي ستنجح في النهاية (وسترى أيها المجادل يا من تركت الميادين وأصبح ميدانك هو "الكيبورد" فقط)، وسيكال لك الاتهامات بالتثبيط والإلهاء للتعطيل عن الهدف الأسمى وكسر الإنقلاب، مع أن الإنقلاب قد كسر فعلا بعد سويعات قليلة من بدايته في (تركيا) بالرغم من مفاجأته وتجهيزاته الجبارة، لكن مناقشة تلك الأمور بطريقة المقارنة التي تستنبط الدروس والعبر قد تكون سببا في الطرد من العالم الافتراضي الرائق الذي يكدر التفكير صفاء الحياة فيه.
الأخوة والحب والشعور الدائم بالاضطهاد والثقة المطلقة والصبر على البلاء، قد تكون معاني رائعة عندما تدفع صاحبها مع جماعته وزمرته لإنجاز عمل معين يخدم المبادئ التي يؤمنون بها، لكنها حين تكون لهم سياجا شاهقة تحيط بهم لتمنعهم من رؤية الحقائق المطلقة الواضحة للجميع وضوح الشمس في كبد السماء، فإنها تجعلهم تماما كصائدي (البوكيمون) الذين لايرون غيرها أمامهم ولا يراها غيرهم، فينطلقون متجاهلين الواقع والتاريخ خلف أهداف إفتراضية صنعت لهم خصيصا حتى يهلكوا وتندثر معهم غاياتهم النبيلة.
"التاريخ لا يعيد نفسه. لكن البشر البلهاء يعيدون ارتكاب نفس الحماقات الماضية" قول منسوب لابن خلدون.
"التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة" كارل ماركس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.