"بعدك على بالي .. يا قمر الحلوين .." هكذا كانت تشدو جارة القمر فيروز بصوت منخفض صادر من الراديو القديم الذي يحتل مكاناً في ركن من أركان الغرفة .. صوت فيروز لم يكن يفارق الغرفة ليلاً أو نهاراً فقد كان إدماناً لا ترغب هي في الشفاء منه ، كان صوتها -فيروز- ينبعث بسلاسة في ليل هادئ صافي يدعو الى الارتياح و التخلص من أعباء اليوم ، لكن بالنسبة إليها لم يكن الأمر يتلخص حول أعباء "اليوم" بل كان اكثر من ذلك، فقد كان اسبوعاً مرهقا و مليئاً بالاحداث أكثر من اللازم .. و لعل هذا " الاكثر من اللازم" يعود على حدود طاقتها و قدرتها على مواصلة السير و التي هي ليست بطاقة ضخمة.
ما ان فتحت باب غرفتها و غمرها صوت جارة القمر تشدو من بعيد حتى خلعت حذائها ذو الكعب العالي جدا و ألقت به جانباً في عدم اكتراث تشوبه شئ من السعادة المستترة ، أخذت تتمايل بعض الشئ على ألحان تلك الأغنية إلى أن شعرت بالدوار .. و مثلما فعلت مع حذائها ألقت بنفسها على الفراش بينما ساقيها ما زالا على الأرض ، كانت تشعر بالراحة .. الكثير من الراحة ، و كأنما زالت عنها هموم الدنيا كلها و ولدت فقط لتسعد .. تركت شعرها ينسدل جوارها و غطت وجهها بكفيها .. كأنما تدعو ملامحها للفرح من جديد .. كأن هناك بداية جديدة تستدعي انتباه كل حواسها و تفاصيلها الدقيقة جداً.
كان من عادتها كل ليلة قبل ان تخلد الى النوم، أن تسترجع أحداث يومها محاولة تجاهل الكثير من التفاصيل التي من الممكن أن تثير في نفسها الرغبة في البكاء .. لكنها على غير العادة قررت في تلك الليلة أن تسترجع أحداث اسبوعها كله ، بل أحداث الفترة الماضية كلها .. و لعل ذلك لم يكن قراراً حقيقياً بل كان رغبة اللا وعي الكامن بداخلها .. فاستسلمت له في هدوء ، لا لشئ سوى لعلمها اليقيني بانتصارها في نهاية الشوط.
اليوم كانت قد قابلت احدى صديقاتها ، و حين تأخرت كثيراً عن موعدها و بدأت صديقتها في التضجر و الملل حدثتها في التليفون قائلة لها " بعمل حاجة مهمة لا تسمح بالتأجيل " فانتظرتها الصديقة المسكينة حتى انتهت و رأتها أمامها و بالطبع سألتها عن تلك الحاجة المهمة، فما كان لها إلا أن ترد " كنت بنهي موضوع خطوبتي" .. هكذا بمنتهى البساطة ، التقت بخطيبها و اخبرته انها تفضل إنهاء الأمر بينهما لانها ليست سعيدة ولا تشعر بالارتياح ، لم تأخذ وقتاً طويلاً لتفكر بالأمر .. قررت و نفذت في نفس اليوم و شعرت بالراحة تسري في كل أنحاء نفسها بينما هي تتركه و تنصرف تاركة له "الدبلة" التي كانت بالنسبة اليها كل ما يربطها به ! و عندما اتهمتها صديقتها بالجنون و التهور و اللا مبالاة لم تفهم مبرر الاتهام ، فما الذي يدفع المرء على الحياة تعيساً و لو ليوماً واحداً ، فالحب إما أن يجعلها سعيدة و إما تتخلى عنه ، و هكذا فعلت بمنتهى المنطقية و النضج !
و لم يكن هذا الحدث الوحيد الذي وقفت عنده ذاكرتها ، بل تذكرت أيضاً تقديم استقالتها من الشركة التي كانت تعمل بها ، و التي على حد قول الناس "حد يطول يشتغل في الشركة دي بالمرتب دة" لكن ما جدوى المرتب و اسم الشركة اذا كانت تشعر بالضغط النفسي و عدم الاستقرار ، ولا ترغب في الاستمرارية ، أليس من حقها الكامل أن تعمل عملاً يريحها و تشعر فيه بشئ من السعادة ؟!
كانت في نظر الكثيرين فتاة متهورة، تتخذ قرارات مصيرية بسرعة بالغة غير لائقة على نوع القرارات ، فهي فتاة عنيدة جداً ولا تحب الصبر .. و كأن كل ما يشغلها في هذة الدنيا هو أمر سعادتها ، تبحث عنها في كل مكان و بكل شكل .. سعادتها فقط !
لكنها لم تقم يوماً بلوم أي ممن كانوا يرونها متهورة أو فاقدة لصوابها بل كانت تشفق عليهم ، لأنهم يجهلون الدافع وراء كونها كذلك يرونها سلبية ولا تحب التعب و سريعة الاستسلام غير مثابرة ولا يرهقون أنفسهم بالبحث عن الأسباب، فهل من المنطقي أن يولد المرء هكذا ؟! مستحيل ! لكنه طبع البشر، فالأسهل دائماً اتهام الآخر بشتى الاتهامات بدلاً من البحث و التدقيق و السعي وراء الأسباب ..فمنذ طفولتها كانت تعاني، تعاني من تفرقة قاسية في المعاملة بينها و بين أخوتها الصبيان الى أن أصبحت تكرههم ولا تتقبل وجودهم في الحياو كثيراً ما بحثت عن الحنان و المودة في قلب أبيها و لكن هيهات هيهات أن يرق قلبه و يشعرها باهتمامه .
و يوم فقدت الأمل في إيجاد المحبة بين أفراد أسرتها انساق قلبها وراء قصة عاطفية كانت تحولت الى محور حياتها .. كانت الأمل الذي تعيش له و تتحمل قسوة أيامها لأجله ..و لكن أقدارها لم ترضى عنها يوما فقررت الدنيا أن تعاقبها على ذنب لم ترتكبه من الأساس فذاقت فشلاً متناهياً في قصة حبها .. فشلاً ترك في نفسها أثراً ما زال ينبض بداخلها رغم مرور السنوات و جراح حية لا تتوقف عن الوجع .
هم يجهلون ظلم الدنيا الذي تعرضت له من ذي قبل فغمرها شعور ظل ينمو بمرور الأيام و السنوات خاصة حين صارت إمراة مسئولة عن نفسها مستقلة عن أسرتها القاسية ، كان شعوراً يخبرها كل يوم أنها قد دفعت ضريبة كل شئ من قبل و من حقها الآن أن تسعد .. تسعد فقط ولا تعود للحزن و الضيق و لو لمجرد لحظة ثانية. و كانت هي في غاية الراحة لتلك الفكرة ولا تحاول انتزاعها من جذور عقلها.
"تذكر شو كنت تقلي … مهما يصير.. انتظريني و ضلك صلي .. الله كبير" ما زالت فيروز تشدو في رفق بينما ابتسمت هي ابتسامة المنتصر الذي يقوى على تحقيق أهدافه ،نهضت من فراشها و أزالت عن وجهها اثار مساحيق التجميل و ظلت تتأمل ملامحها طويلاً بينما تكسوها معالم الهدوء و السلام ..و بمنتهى الخفة ذهبت الى فراشها مجدداً و استسلمت لسبات عميق ، سبات لا يدل إلا على أنها ستنام اليوم سعيدة محققة بذلك هدفها اليومي ، الذي لا تعيش سوى لأجله.