التدخّل في لباس الغير تعسُّف وحدّ من حرية التعبير

إلا أن أكثر مشاعري اختلاطاً وغموضاً هي تلك التي تنتابني وأنا أرتدي فستاناً أو تنورة أو شورتاً قصيراً إلى ما فوق الركبتين، أتردد ساعتها بين الثقة والارتباك، وبين محبّة العالم وكراهيته، بين الرغبة في الكتابة، وبين الخروج للمحلات والأسواق، بين الانطلاق والكسل.. تختلط مشاعري لدرجة قد تدفعني إلى نزع الفستان أو الشورت والبحث عن شيء آخر قادر على توحيد مشاعري في أي اتجاه كان.

عربي بوست
تم النشر: 2017/08/02 الساعة 08:30 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/08/02 الساعة 08:30 بتوقيت غرينتش

أشعر وأنا أرتدي فستاناً مشدوداً على الحزام والصدر، ومنسدلاً إلى مستوى الركبتين، واسعاً من تحت، مصنوعاً من قماش خفيف وناعم، أنني سيدة حكيمة وناضجة، وأُم وامرأة مسؤولة، يزداد هدوئي وتركيزي، وأصبح أكثر صبراً وتقبّلاً للآخرين واستيعاباً لمشاكلهم، بالكاد أرفع صوتي وأتخلّى عن عنادي وعصبيتي.

في هذا اللباس أيضاً، أخرج أوراقي وضرائبي، أُراجع دفاتري وأرتب نفقات البيت والعائلة، وأضع الأولويات.

في المقابل، أشعر في بنطلون جينز وبلوزة خفيفة وحذاء رياضي أو من دون كعب أنني شابة منطلقة، وامرأة عصرية من حقها أن تتخلى عن الحكمة وتتحلّى ببعض الجنون، أترك ترتيب البيت وأخرج للتنزه في الباركات العمومية والتمدد على العشب، أو لشرب شيء في أحد المقاهي الممتدة على الشاطئ، أو أذهب لمشاهدة فيلم أو مسرحية أو عرض ثقافي.

إلا أن أكثر مشاعري اختلاطاً وغموضاً هي تلك التي تنتابني وأنا أرتدي فستاناً أو تنورة أو شورتاً قصيراً إلى ما فوق الركبتين، أتردد ساعتها بين الثقة والارتباك، وبين محبّة العالم وكراهيته، بين الرغبة في الكتابة، وبين الخروج للمحلات والأسواق، بين الانطلاق والكسل.. تختلط مشاعري لدرجة قد تدفعني إلى نزع الفستان أو الشورت والبحث عن شيء آخر قادر على توحيد مشاعري في أي اتجاه كان.

تسريحة الشعر أيضاً لا تقل تدخلاً في تحديد مشاعري، فالشعر الكيرلي المنطلق في كل الاتجاهات، يشعرني بالفوضى ويُذهب تركيزي وحرصي على الترتيب ومراعاة القواعد والالتزام بالقوانين، في هذه الأيام أتمرد، أصبح عدائية ومتحفزة، لا أمرر ولا أتسامح، ولا أعتذر.

أما الشعر المسترسل الناعم، المنسدل على الكتفين والظهر، فيمنحني ذلك الشعور الهادئ الملتزم، ويعيدني إلى حالة من الصفاء الداخلي تظهر جلية على وجهي وعيني.

اللباس لا يحدد هويتنا بالنسبة للآخرين فقط، لكنه أيضاً يحدد مشاعرنا الداخلية، وشعورنا بأنفسنا وبالعالم، ومن هذا الشعور نبني أيضاً سلوكنا وتصرفاتنا ومراكز اهتمامنا، وهو لذلك أخطر وأهم مما نتخيل.

فإذا كنا نتصرف على النحو كذا في ظل ارتدائنا لكذا، فمعنى هذا أن هذا العامل الذي لا يبدو مهماً للوهلة الأولى يملك نفس القدرة التي تملكها مؤثرات خارجية أخرى أكثر أهمية مثل العامل الاقتصادي والاجتماعي والديني.

التدخل في لباس الغير وتوجيهه، تدخل في مشاعر الآخر وتوجيه لسلوكه، الأكثر من ذلك، هو استقطاب من نوع ما.

تشتكي لي فتيات كثيرات من تدخل الزوج أو الأب أو الأخ في لباسهن، بحجة أن هذا ملائم للأعراف وهذا غير ملائم، أو أن هذا يليق بالعائلة وبمستواها الاجتماعي وهذا لا يليق، والحقيقة أن هؤلاء الذين يسمحون لأنفسهم بالتدخل في ملابس غيرهم، لا يعون خطورة هذا التوجيه عليهم وعلى سلوكهم وتصرفاتهم وطريقة تفكيرهم، فالمرأة التي تلبس شيئاً لا يشبهها هي امرأة مشوهة المشاعر والهوية، تماما كالذي يلبس جلداً ليس جلده، أو الذي يعيش داخل شخصية ليست شخصيته، ويمكن تخيّل ما ينتج عن هذا الخلط الغريب، وهذا الالتباس في الهوية والملامح!

حدث أن رأيت زميلاً لابني في المدرسة يرتدي ملابس متداخلة وأقمصة فوق بعضها غير متناسقة، بحيث يبدو الأسفل منها أطول من الأعلى، كان منظراً غريباً، لم أتمكن من تفسيره، فوالدة الطفل طبيبة نفسية وهي صديقتي ولهذا فقد تجرأت على سؤالها عن السبب، وكان ردها أنها لا تتدخل في لباسه أياً كان شاذاً أو غريباً، وأنه اختار هذا اللباس؛ لأنه يستجيب لدوافع داخلية معينة ويشبع لديه رغبة ما أو يعبّر عن وجهة نظر معيّنة أو رسالة يريد أن يبلغها للعالم، كما أن طريقة لباسه تساعده على معرفة ما في داخله من قلق أو فوضى أو خوف أو سعادة.

اللباس موقف ووجهة نظر من الحياة ومن العالم ومن الآخرين، وهو في ذلك مثله مثل مقال رأي أو قصيدة أو تصريح أو وقفة احتجاج، وأيّ تدخل فيه لتوجيهه يعتبر تعسفاً، وحدّاً من حرية التعبير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد