يأتي الغرباء إلى مدينة طنجة (شمال المغرب) بفعل سمعتها كمكان يصنع الدهشة التي تفتقدها مدن أخرى. فالمدينة تقع على الساحل المتوسطي، تتميز كذلك بكونها نقطة التقاء بين المتوسط والأطلسي من جهة، وبين إفريقيا وأوروبا من جهة ثانية.
وتصنع طنجة التحولات والأمزجة الرائعة من خلال زيارة معالمها التاريخية المتعددة، ومنها مقهى "الحافة" الذي ذاع صيته عالمياً، بعد أن زاره مشاهير كُثر من عالم السياسة والإبداع.
الحافة.. قرن من الحضور
في عام 1921 فكّر مواطن مغربي طنجي بسيط يدعى "بّا محمد" أن يحوّل مكاناً خلاء، في مرتفع بحي "مرشان" أحد أقدم أحياء المدينة، ليس به سوى أشجار ومنعرجات وعرة لا يستطيع أن يمر فيه أو يزوره أحد، إلى مدرجات وحقل صغير شيّد عليه مقهاه الذي سُمي منذ لحظته الأولى "مقهى الحافة"، المطلّ على نقطة التقاء البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي عبر مضيق جبل طارق، وعلى إسبانيا التي تبعد بـ14 كلم تقريباً.
وخلال هذه الفترة بالذات عند تأسيس مقهى الحافة، كانت مدينة طنجة تعيش وضعاً سياسياً خاصاً سُمي "الوضع الدولي"، بعد أن تم احتلال المغرب بتوقيع معاهدة الحماية عام 1912، وقُسّم البلد إلى مناطق نفوذ فرنسية وأخرى إسبانية.
لذلك استقبلت المدينة مجموعة من الأجانب من مختلف الجنسيات، وأصبحت بعد ذلك ملتقى لأسماء شهيرة تركت بصماتها في تاريخ البشرية. وكان لمقهى الحافة نصيب من زيارات هؤلاء الأجانب.
الحافة.. قيمة ثقافية
قبل عام فقط من الآن، لم يكن مقهى الحافة مصنفاً في قائمة المعالم التراثية والتاريخية لمدينة طنجة، لكنه أصبح اليوم مسجلاً في قائمة التراث المحمي بموجب القانون.
ويؤكد العربي المصباحي، المدير الجهوي للتراث بطنجة، أن "السلطات المحلية للمدينة ومصالح محلية أخرى إلى جانب وزارة الثقافة، استصدرت مجموعة من القرارات لحماية مجموعة من المعالم والبنايات ذات القيمة الهندسية والثقافية من ضمنها مقهى الحافة".
ويوضح المسؤول بوزارة الثقافة، في حديث لـ"عربي بوست"، أن "البعد الثقافي بالدرجة الأولى هو الذي دفع إلى تصنيف الحافة كتراث وطني".
يضيف المصباحي أن "مقهى الحافة ليس له طابع معماري هندسي معين، لكن له قيمته الثقافية، بسبب الأحداث التي شهدها والشخصيات التي زارته وهي أسماء كبيرة".
كما أن مقهى الحافة -بحسب المصدر ذاته- بمثابة "نادٍ مفتوح للمثقفين بالمدينة خاصة في الفترة الدولية وما بعد هذه الفترة أيضاً. بالإضافة إلى أنه شرفة تطل على البحر المتوسط والشواطئ الإسبانية، وهي بذلك ذات موقع طبوغرافي وجغرافي متميز. وهذا كله يجعل منه فضاءً تراثياً بامتياز".
مقهى المشاهير
لابد لزائر المدينة، إن كان رساماً أو شاعراً أو روائياً، أن يسأل عن الحافة، هذا المقهى البسيط الذي ورد ذكره في عدد من الروايات العالمية. بل هناك من سمى كتابه الأول باسمه مثل "دفاتر الحافة" الذي صدر حديثاً، للكاتب الإسباني الشاب "بابلو ثيرثال" (1972)، الذي قال بحق المقهى: "هناك أماكن قليلة أسطورية جداً مثل الحافة".
ومقهى الحافة متفرد في كل شيء، حتى في تاريخه الذي بصمته العديد من الأسماء الشهيرة، على رأسها الروائي المغربي الراحل محمد شكري (1935-2003) صاحب "الخبز الحافي"، الذي كان يقضي وقتاً كبيراً في التأمل وصناعة السكون في المقهى، إلى جانب الكاتب الأميركي الراحل بول بوز (1910-1999) الذي اختار الإقامة في طنجة منذ عام 1935 وترجم "الخبر الحافي" إلى الإنكليزية.
ومن المشاهير الذين احتسوا كؤوس الشاي المغربي في المقهى، فرقة "البيتلز" البريطانية، ومغني الروك الأميركي الأسطورة "جيمي هاندريكس"، إضافة إلى المطرب والملحن والشاعر الأميركي الحائز مؤخراً جائزة نوبل للآداب "بوب ديلان"، الذي خصّ طنجة أغنية في ألبومه الخامس عشر سنة 1975.
مقهى الحافة صنع سمعته العالمية أيضاً ممن زاره من عالم السياسة، انطلاقاً من "وينستون تشرشل" أشهر رئيس وزراء عرفته بريطانيا عبر تاريخها، إلى الدبلوماسي الغاني "كوفي عنان" (1938) الذي تقلد منصب الأمين العام للأمم المتحدة، والذي أصرّ في إحدى زياراته لطنجة على أن يزور مقهى الحافة الشعبي، ويجلس على كراسيه المبعثرة دون الالتزام ببروتوكولات عالم السياسيين والدبلوماسيين.