من يعرف مدينتي طرابلس أو زارها ولو لمرة واحدة يدرك أنها مدينة العشق الأبدي، التي توزع كل معاني الخير والحب على أهلها ومحبيها، مدينتي الجميلة، والتي تحتضن إرثاً حضارياً عريقاً يمتد من العصور السابقة، ولن ينتهي إلى يومنا هذا، هي نفسها القوية، العصية على الكسر، التي قاومت الفرنجة والانتداب الفرنسي والاحتلال الإيطالي.
من حطت رحاله يوماً في مدينة العلم والعلماء كما سمَّاها المؤرخون عبر التاريخ، يعلم لذة زيارة مساجدها الشاهدة على مرور الفتوحات الأولى والثانية وعلى حكم المماليك والسلاجقة والأيوبيين والعثمانيين، ممن تركوا خلفهم علامات وبصمات تدل على مكانة طرابلس وحضورها في المشهد السياسي الذي يحاول البعض طمسه في هذا الزمن.
زيارة المسجد المنصوري الكبير والصلاة فيه وتأمل حجارته التي تنطق بدور هذا المسجد في بناء الأجيال عبر الزمن، يكفيه أن حلقات العلم لم تنقطع في أحلك الظروف التي مرت على المدينة، ثم اخرج وتمشَّ قليلاً لترى الأسواق القديمة التي تعتبر من أقدم الأسواق على ساحل المتوسط، لترى كنائس العهد القديم تقرع أجراسها دون خوف أو وجل، وتعبيراً عن قيم التسامح والعيش مع الآخر والانصهار بين أبناء الحي والشارع الواحد، وحاول أن تتحدث للباعة والتجار لتلمس من ابتسامتهم وكلامهم المليء بالكلام الجميل مدى الكرم والسخاء الذي قل أن تجده في مكان آخر.
لكن كل هذا الإرث والقيم والحضارة، لم تشفع للعاصمة الثانية الجمهورية اللبنانية، فالحرمان والفقر والإهمال غير المبرر ما زال يلف المدينة، على الرغم من وجود المقومات لنهضة على مستوى البشر والحجر، مدينة الأفراح تعاقب اليوم على صمودها البطولي في وجه استبداد الوصاية السوري الذي فعل ما فعل من قتل وبطش وتدمير فحرب 83 و85 ومجازر 86 تشهد على بربرية الطائفية المسمومة بأحقاد التاريخ، لكن هذا البطش لم يرحل مع رحيل الغزاة، فبقي عبر وسائلهم المتعددة وعبر تشويههم المستمر لصورة مدينة التسامح من خلال تسويق صورة ملفقة وتحريك الصراعات العبثية والجولات والرسائل، وكأن مدينتي صندوق بريد لحماقاتهم المجنونة.
في 23 أغسطس/آب 2013 على الرغم من بشاعة المشهد وصور الدماء والأشلاء التي غطت على أي شيء آخر، لكن المفارقة التي جرت عكس أحلامهم المريضة، أن الفيحاء عبرت على وجهها الحضاري وصوتها الراشد وأعلنت من التقوى والسلام أن استهداف المساجد وقتل المصلين وترويع الآمنين ما هو إلا دليل على نفاق وكذب كل آلة الترويج السخيفة والتي عملت لسنوات على تشويه وجه الحضارة الإنسانية التي تتمتع بها طرابلس على وجه الخصوص.
مدينتي الحرة والطاهرة بعد ثلاث سنوات على إرهابهم وحروبهم التي دمرت العالم ونشرت ثقافة القتل العشوائي دون رحمة، ها أنت اليوم تعبرين عبر عن جمالية روحك وإيمانك برسالة الرحمة للعالمين التي كرسها الإسلام العظيم، وها هم أبناؤك يبرهنون للعالم أجمع أنك رسالة للعلم والحياة، فمنك يا فيحاء يخرج المخترعون وأطباء النخبة الذين يعيدون للناس عبر شتى دول المعمورة صورة الحياة الراقية، وها هم أيضاً أولادك المنتشرون عبر جامعات العالم يعطون دروساً في التفوق والاجتهاد.
مدينتي الغالية التي خرج منكِ الفاتحون والعلماء عبر الزمن وما زالوا، لا تهتمي بتلك الأصوات التي تخرج علينا كي تجرنا نحو ما يريدون هم، واعلمي أن هذا الإهمال الممنهج لن يزيد أحبابك وعشاقك إلا إصراراً على الخروج من تحت الركام والغبار والعمل على نهضتك، وجعلكِ بحق مدينة التقوى والسلام.. يا عشقي الأبدي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.