بين الفينة والأخرى نسمع بوفاة حالة مرضية جديدة تنقل لنا مآسي القطاع الصحي في غزة، ونصاب بالذهول من هول ما نسمع من إهمال طبي يصيب المرضى. حيث يختفي دور الرقابة في البحث عن أسباب هذه الظاهرة. وفي أحسن الحالات قد يصل الأمر إلى لجان تحقيق صورية وتقرير إعلامي من المؤسسة الصحية ذات العلاقة يفيد بأن الخطأ وارد وهو غير مقصود، والضحايا هم الأبرياء في غزة.
في مساحة لا تزيد عن 365 كيلومتراً مربعاً لا يوجد إلا مستشفى مركزي واحد وهو مستشفى الشفاء. ويعتبر هذا المستشفى والذي أنشئ في العام 1946م أكبر مجمع صحي في القطاع. تُحول إليه الحالات الصعبة من جميع المحافظات لأنه الوحيد المجهز لاستقبال الحالات الحرجة. ويعتبر هذا المجمع هو مركز الخدمات الصحية المختلفة في القطاع. وستجد أن معظم ممارسي مهنة الطب بتخصصاتهم المختلفة قد عملوا في فترة من فترات حياتهم المهنية في هذا المجمع الصحي.
بعد تجربة شخصية، فإن الذهاب إلى مستشفى الشفاء يشبه إلى حد كبير (السجن).. يُفرض عليك ذلك ليس باختيارك.. تدخل بنفسك إلى عالم مختلف، عالم بعيد كل البعد عن الإنسانية، بعيد كل البعد عن الرحمة! بكل بساطة، بمجرد دخولك إلى هذا المكان تكون قد ختمت وثيقة سفرك بختم مغادرة من عالم الإنسانية وختم دخول إلى عالم اللاإنسانية.. أما عن ختم العودة فهو مرهون بمخرجات الأحداث خلال فترة إقامتك.
ستشعر خلال إقامتك في هذا المكان بالحاجة وعدم الاهتمام. سترى اختفاء وتلاشي المهنية وستجد نفسك ضائعاً وتائهاً بين بوتقات العمل اللاممنهج. عند دخولك إلى غرف المرضى ستشعر بكآبة شديدة حيث ما زالت كوابيس الخوف والقلق تطارد أوجاعهم؛ بسبب شبح الأخطاء التشخيصية والطبية.
وأكاد أجزم بأنك قد تسمع آهات من كانوا قبلك وستشعر بآلامهم المحجوزة بين حوائط الغرف. أما عن معظم العاملين في هذا العالم فهم بلا رحمة، وكأنها من متطلبات التوظيف في هذا المكان، بل وسيصدمك ما يتمتع به معظم العاملين من قسوة مفرطة. أما عن احترام وضع المريض فلن تشعر به بغض النظر عن وضعك الاجتماعي أو فئتك العمرية، وستضطر آسفاً التغاضي عن كم كبير من الذل والامتهان لكرامتك ولشخصك لأنك وبكل بساطة الحلقة الأضعف.
ومع اختفاء دور الرقابة والقانون في محاسبة الإهمال الطبي، تتزايد حالات الأخطاء الطبية الصادمة في مختلف مؤسسات القطاع الصحي في قطاع غزة والتي عند سماعك لها للوهلة الأولى قد تصاب بالقشعريرة.
من هذه المآسي، أم دخلت إحدى المؤسسات الصحية لوضع مولودتها، لتتفاجأ بعد الولادة وبدون أي مبررات صحية أو مؤشرات بأن المولودة قد فارقت الحياة؛ لأنها تعاني من تشوهات خلقية حسب ما ادعى طاقم التوليد في حينه. ولكن ما زاد الشكوك هو رفض طاقم التوليد أن ترى الأم ابنتها لتودعها، ولكن وبعد إصرار الأم ورجائها لإحدى مرافقاتها أفادت بأن المولودة لا تعاني من أي تشوه خلقي وإنما وأثناء عملية الولادة فقد تسبب عنف القابلة بكسر عنق المولودة مما أدى إلى وفاتها.
مأساة أخرى، أم دخلت إحدى المؤسسات الصحية لوضع مولودتها البكر ونتيجة لآلام الوضع فقد كانت هذه الأم تصرخ من الألم، فإذا بالطبيب المولد يصرخ عليها ويهددها بأنه سيضربها بالحذاء إن لم تسكت وتخفض صوتها!
كثيرة هي القصص والحكايا الموجعة ولا يمكن حصرها، وما خفي كان أعظم! وأخيراً ما تناولته مواقع التواصل الاجتماعي لحادثة وفاة الطفل الرضيع البالغ من العمر شهر واحد عندما اصطحبه والده لإحدى المؤسسات الصحية ليجري له عملية افتاق وتطهير ليتفاجأ بأن ابنه قد فارق الحياة نتيجة لزيادة جرعة التخدير.
رسالتي إلى المريض في ظل استمرار أزمة القطاع الصحي في قطاع غزة، حرصاً على مصلحتك، وتوفيراً للجهد والمال العام والخاص. عند تدهور حالتك الصحية لدرجة استلزمت أهلك التفكير باصطحابك إلى أحد المؤسسات الصحية في قطاع غزة، فلتطلق النار على نفسك أو ترمي بنفسك من النافذة لتنهي حياتك بيدك بدلاً من أن ينهيها لك أحد "ملائكة الرحمة" في هذا المكان. لأنني لا أعرف إلى متى سيظل تجاهل الوضع المأساوي لهذا القطاع! وماذا ينتظر المسؤولون؟ ألا يكفي من عانى سابقاً ويعاني حالياً؟ ألا تكفي المآسي التي تحدث كل يوم بل كل ساعة في القطاع الصحي لاتخاذ قرار جديّ جريء لمعالجة الوضع؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.