أحاسيس

نجرح، فلا يلتئم الجرح رغم مرور السنين، قد نخفف من آلامه بفرحة زائفة، وقد نهدئه بأمل كاذب، حتى نعيش وتستمر الحياة، لكن الجرح ينزف بغزارة، وبألم أشد، وأنين أقوى، كلما استوقفتنا محطات الحياة في ذكرى من ذكريات الماضي، فيهيج الجرح وتسوء حالته فلا ينفع معه حينها، لا دواء ولا مسكنات سوى دموع الحسرات وآهات الندم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/11/25 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/11/25 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش

بداخل كل إنسان منا فضاء شاسع فسيح، غير محدود، تسبح فيه كل الأحاسيس؛ الطيبة والخبيثة، الراقية والدونية، الجميلة والقبيحة.

تارة تتعايش مع بعضها بتناغم وتجانس، فنكون في حالة من السلام الداخلي، وتارة تضطرب وتتصارع بداخلنا معلنة عن حرب أهلية لا تنتهي إلا وقد خلفت فينا خسائر كبيرة.

وبين مد وجزر في بحر أحاسيسنا نعيش الحياة، بفرحها وحزنها، بابتسامتها ودموعها، بأملها ويأسها.

ومهما كبرنا ومرت السنون، تبقى أحاسيسنا في الطفولة لا تنضج ولا تشيخ أبداً.

تجرح بكلمة، وتطيب بكلمة، تفيض في لحظة حنان، وتهدأ في لحظة أمان، تتعب من القسوة والجفاف، ترتاح بالاهتمام والتقدير، تعبر بصدق، تقسو بأنانية وترغب ببراءة.

نحب بصدق وعمق، فتحلو الحياة، وتصبح وردية، نحبها ونعشق كل ما فيها، فنغدو أطفالاً صغاراً نرقص مع إيقاع دقات القلب، دون أدنى اعتبار لصافرة إنذار العقل، نعطي بلا حساب، نسامح بلا عتاب، نستحلي العذاب، ولا نحلم سوى بغد بلا فراق.

فيصبح الحبيب والحياة وجهين لعملة واحدة، هو الحياة والحياة هو.

يستعمر القلب ويزرع حبه في عروقه وشرايينه، فيصبح الدم الذي يسري في كل الجسم، يحمل رسمه وصورته، كيف لا والقلب يدق باسمه مع كل خفقة، ويتشكل من ملامحه في أدق تفاصيلها، فيعيش تحت رحمته بلا حول له ولا قوة، بين الحياة والموت، فلا الحياة والقلب محتل أريح، ولا الموت بالاستقلال عنه أقرب، فتصبح كل التصرفات والأقوال تقول وتصرخ: يا عالم، يا ناس، أنا أحب، أنا أعشق، أنا أحيا وأموت، وأموت وأحيا، بلا رحمة ولا شفقة، آلاف المرات.

نغير، فتشتعل براكين من نار في صدورنا تحرقنا وتعمي أبصارنا، تصبح الحياة ليلاً مظلماً دامساً، لا منار فيها ولا نور، تنفلت منا الأعصاب ونعيش في حيرة وضباب، نضعف إلى حد الانهيار، ونجن إلى حد الانفجار، فإحساسنا بالنقص والهوان إحساس لا يطاق، نعيش في حالة بين الحقيقة والحلم، نرفض التسليم ونتمسك بالأمل حتى آخر رمق، نكذب حواسنا الست، ونكذب العقل والمنطق، ونشكك في نوايا كل فاعل خير، فلا نعترف بقانون ولا عقل ولا أعراف، سوى قانون الحب وبند الامتلاك.

قد ننجح، فتنطفئ وتخبو نار الغيرة، وقد تزداد تأججاً حتى تأتي على الأخضر واليابس، لا تترك سوى الرماد يتطاير في الهواء.

نشتاق، يصرخ الحنين بقوة، من كل خلية فينا، نكتوي بنار البعد، فتخنقنا دموع الحسرة والندم، ونتذوق جميع أشكال العذاب التي حكمنا بها على أنفسنا بدافع عزة النفس والكرامة، نجتر الذكريات الجميلة والممتعة؛ لنسلي بها الروح ونصبر بها القلب، فلا تزيدنا سوى عطش، ولوعة على ماضٍ كان بالأمس بين أيدينا، وأصبح اليوم غريباً بعيداً، ونعيش في غربة، فالجسد يحيا في مكان، والروح تائهة تتمزق في مكان آخر.

نجرح، فلا يلتئم الجرح رغم مرور السنين، قد نخفف من آلامه بفرحة زائفة، وقد نهدئه بأمل كاذب، حتى نعيش وتستمر الحياة، لكن الجرح ينزف بغزارة، وبألم أشد، وأنين أقوى، كلما استوقفتنا محطات الحياة في ذكرى من ذكريات الماضي، فيهيج الجرح وتسوء حالته فلا ينفع معه حينها، لا دواء ولا مسكنات سوى دموع الحسرات وآهات الندم.

أحاسيسنا عالم آخر خفيّ، طاقة من المشاعر والعواطف، صوتها قوي، وتأثيرها علينا طاغٍ، لا ترى ولا تسمع، لكنها تحس، في نظرات العيون، في خفقات القلوب، في لمسات الأيدي، وفي نبرات الصوت.

لا يكتسب الإنسان النضج العاطفي اللازم إلا إذا ترك لنفسه الفرصة ليعيش ويجرب كل هذه المشاعر الإنسانية المختلفة والمهمة، وأهم شيء هو أن يترك لها الفرصة كذلك للتعبير عن نفسها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد