منذ انضمام تركيا إلى حلف الناتو في عام 1952، رأت أنقرة في عضويتها موقفاً مربحاً لجميع الأطراف، فبينما يقوّي الحلف أمن تركيا ويساهم في دمجها بالمجتمع الأوروبي – الأطلسي، تلتزم تركيا أيضاً بمسؤولياتها في الدفاع عن مصالح الحلف.
إلا أن الأعوام الأخيرة وضعت الكثير من الضغط على هذه العلاقة مع وضوح عدم قدرة الناتو أو عدم رغبته في وقف الموجة المتصاعدة من عدم الاستقرار الإقليمي الناتج عن زيادة نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام على خلفية الحروب الأهلية المشتعلة في سوريا والعراق أي على حدود تركيا.
ويبدو أن الانقلاب الفاشل الذي جرى الأسبوع الماضي سيزيد من عدم الثقة بين تركيا وبين حلفائها في الناتو.
حذر وزير الخارجية الأميركي جون كيري من أن استغلال تركيا للانقلاب للقضاء على خصومها وتقويض ديمقراطيتها، يكلفها عضويتها في الناتو.
لكن بغض النظر عن مدى خطورة التحذير الأميركي – وأنا لا أظن أنه جديّ- هل ستبقى أنقرة جزءاً من حلف الناتو، خاصة مع فشل جهودها في الانضمام للاتحاد الأوروبي؟
عون أم عبء؟
لطالما احتضنت الولايات المتحدة تركيا باعتبارها كنزاً استراتيجياً، متغاضية عن سوء استغلال تركيا العسكرية للديمقراطية.
حافظت واشنطن على علاقتها الوثيقة بأنقرة على مدار عقود على الرغم من، أو بفضل، وقوع 4 انقلابات عسكرية في أعوام 1960 و1971 و1980 و1997، وحتى بعد غزوها لقبرص في 1974.
بينما تعطي وسائل الإعلام الغربية انطباعاً بأن تركيا تحت حكم أردوغان أضحت تهديداً للمصالح الغربية؛ "عبئاً استراتيجياً"، و"مدفعاً غير مسؤول" أو "حليفاً متهوراً وعدوانياً"، بالإضافة إلى أنها أصبحت "طابوراً خامساً".
هل أي من هذا حقيقي؟
ليس بحسب جيمس ستافريدس، القائد الأعلى المتقاعد لحلف الناتو، الذي ذكر في إحدى مجلات السياسة الخارجية (Expose) مؤخراً أن تركيا كانت حاضرة "في كل عمليات حلف الناتو تقريباً وبأثرٍ واضح: في تدريب قوات الأمن الأفغانية، وقيادة جهود التحالف في المنطقة الوسطى بما فيها كابول، بالإضافة إلى إرسال السفن والطائرات إلى ليبيا، والمشاركة في مكافحة القرصنة، ووجودها المستمر في قوات الأمن وحفظ السلام في البلقان".
كما أضاف ستافريدس، الذي يُعَّد النائب المرشح لهيلاري كلينتون، أن لتركيا "قدرة هائلة" على التأثير في سير الأحداث، "بدءاً من الدولة الإسلامية في سوريا ، ومروراً بإسرائيل والغاز والنفط في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مواجهة التطرف الإسلامي والاستقرار في مصر".
أي أن تركيا في ظل إدارة أردوغان كانت عوناً هائلاً لحلف الناتو، بل إنها أفادت الحلف أكثر مما استفادت منه.
عضو متحمس
يبدو أن حزب العدالة والتنمية هو أكثر حماساً لتقديم الدعم لحلف الناتو مقارنة بأسلافه القوميين العلمانيين، أو حتى حلفائه الغربيين. كما أنه يرى لنفسه، وللناتو، دوراً جديداً وكبيراً في مضي الشرق الأوسط قدماً.
منذ العمليات "الخارجية" الأولى التي قام بها الناتو في أفغانستان في 2001، أكدت تركيا على كونها العضو المناسب للمساهمة في هذه التدخلات نظراً إلى عدم الاستقرار الذي تعانيه منطقة الشرق الأوسط.
بل ذهب أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق، إلى أبعد من ذلك حاثّاً أوروبا على دعم التغيير في الشرق الأوسط كما فعلت مع أوروبا الشرقية، متعهداً "باستمرار تركيا في تقديم العون والبقاء طرفاً فاعلاً في الناتو إذا اقتضت الحاجة المستقبلية مزيداً من مشاركة الناتو في الشرق الأوسط".
إلا أن هذا في رأيي ليس إيجابياً لتركيا أو للشرق الأوسط، خاصة بعد غزو العراق وأفغانستان، ولا حين تُعامَل تركيا باعتبارها جندياً في حلف الدول الغربية العظمى.
وعلى الرغم من الهجمات الإرهابية التي شهدتها إسطنبول وغيرها من المدن التركية، يشعر الأتراك بأن قلقهم ومصالحهم الخاصة ليست محل احترام مجلس شمال الأطلسي.
وبدلاً من كونهم أصدقاء وحلفاء متساوين، تستمر الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون في التعالي على تركيا تحت قيادة رجب طيب أردوغان، مثلما حدث مؤخراً من قبل وزير خارجية فرنسا، والذي أُخبِر أن يهتم بشؤونه الخاصة.
وهو ما يطرح السؤال التالي: ماذا سيحدث إذا علقت أنقرة عضويتها في الحلف أو تخلت عنها؟
البديل وتبعاته
لن تواجه تركيا مخاطر أمنية جمة إذا قررت ترك الناتو، إذ إن لديها جيش قوي، وميزانية للدفاع العسكري تفوق جيرانها أو حلفاء الناتو ما عدا الولايات المتحدة.
صحيح أن علاقاتها بجيرانها ليست على ما يرام، إلا أنها عملت على تحسين علاقاتها على مدار الأشهر والأسابيع الماضية، خاصة مع إسرائيل وروسيا.
كما تشير التقارير إلى أن تركيا، قبل الانقلاب، كانت تتجه مرة أخرى لمسار دبلوماسي "خالٍ من المشكلات" أكثر براغماتية وحيادية مع جيرانها.
لكن الأمر نفسه لا يسري على الناتو، إذ سيعاني الحلف إذا قررت تركيا التخلي عنه.
مبدئياً، سيصبح الحلف نادياً عسكرياً للدول ذات الأغلبية المسيحية وهو ما سيعني عواقب وخيمة على عملياته الخارجية.
ثانياً، سيصبح فوز الناتو بالحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية أكثر صعوبة، إن كان ممكناً في الأصل.
ثالثاً، ستكون عواقب زعزعة الاستقرار التركي وخيمة على أوروبا، ومن شأنها أيضاً أن تعزز قوة تنظيم الدولة الإسلامية.
رابعاً، ستشجع روسيا على التحرك بعدوانية في المنطقة، وخامساً، ستخسر الولايات المتحدة والناتو منشآتها العسكرية الرئيسية في تركيا.
إذن هل ستترك تركيا الناتو؟
في الواقع لا تملك تركيا خياراً حقيقياً بديلاً عن الناتو أو الاتحاد الأوروبي، فمنظمة التعاون الإسلامي هي منتدى أو مكان للنقاش أكثر منها حلف، وهو ما يسري على بريكس أيضاً (BRICS).
مع ذلك، وللاعتبارات العملية، توشك إدارة أردوغان على التخلي عن محاولة الانضمام للاتحاد الأوروبي، مبتعدة عنه مع رفضها لطلبات الاتحاد الأوروبي بشأن مراجعة قوانينها الخاصة بمكافحة الإرهاب، واحتمال إقرار عقوبة الإعدام.
لكن أنقرة ستتشبث بعضوية الناتو لمزاياها السياسية لا العسكرية، فبعيداً عن انزعاج باريس وواشنطن، تؤكد التجربة التركية أن عضويتها في الناتو تضمن لها القيام بما تريده داخلياً مادامت تخدم الولايات المتحدة والناتو على الصعيد الخارجي.
وبالنظر إلى المكالمة الهاتفية التي أجراها باراك أوباما مع الرئيس أردوغان، تتشبث الولايات المتحدة بحليفها التركي. وهو ما سيستمر على الأغلب إذا وافقت كلينتون على توصيات ستارفيدس.
إذاً مع تعزيز أردوغان قبضته على المؤسسات العسكرية والسياسية في البلاد، ستستمر تركيا والناتو في التعاون وتبادل الزيارات وزيادة خطوط التواصل والتأكيد على تعاونهما في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية.
– هذا الموضوع مترجم عن النسخة الإنكليزية لموقع "الجزيرة نت". للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.