يختلف مفهوم البقاء من شخص لآخر، فمنهم من يفهم البقاء على أنه تحقيق الذات وتطويرها والسعي لتحقيق الأهداف التي يحددها كل إنسان، بعد أن يطرح على نفسه ذلك الكم الهائل من الأسئلة التي يفتتحها بماذا أريد أن أكون؟ ثم يبدأ تدريجياً بتوسيعها وتكبير نطاق المضمونية فيها، إلى أن يصل ليسأل نفسه: لماذا خلقت؟ وماذا ينتظر هذا العالم مني؟
تجده يركز على استغلال وقته ليستفيد ويُفيد، يبحث، يسأل ويجرب، يسعى دائماً ليُخرج أحسن ما فيه؛ ليخدم نفسه، وبالتالي يخدم المجتمع الذي ينتمي إليه، ثم يخدم الحركة المجتمعية التي يتبناها هذا العالم، يخرج من زاوية النظر الضيقة ذات الرؤية المشوشة إلى زاوية النظر الواسعة، ذات الرؤية الواضحة، يخرج من منطقة الأنا إلى منطقة دور الأنا في الإضافة لهذا العالم، مما ينتج عن هذا الانفتاح الذهني تدفق معرفي باتجاهين؛ الأول يخدم الإنسانية، والثاني يخدم ذلك الإنسان بحد ذاته، فقدرة العطاء تُحيي في النفس الكثير، العطاء هنا هو ما نضيفه في وعاء الكل، وهو ما يضمن بقاءنا في هذا العالم (بالمعارف والعلوم المتروكة)، أما شخوصنا فهي فانية لا محالة، ويكون هذا العطاء ناتجاً عن ولادة فكرة التي بدورها ناتجة عن نقص في مجال معين ومحدد وغير هذا تكون الفكرة والمشروع الذي يتبناها دون نفع.
في فكر مالك بن نبي الأهم والأجدى من منطق الفكرة هو منطق العمل (القدرة على تطويرها وتحويلها إلى إنجاز يخدم المجتمع)، أما الفكرة فهي ممكنة لكل إنسان يمتلك قواه الذهنية، والدليل قوله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً"، في كتاب سيرة خليفة قادم لأحمد خيري العمري، يذكر الدكتور أن المشروع يمر بعدة أطوار ومراحل، يبدأ بولادة الفكرة، والترويج لها، ومن ثم تحويلها إلى سلعة، كل طور من هذه الأطوار يتبناه حامل وقر، تتمثل حاملات الوقر هنا في: المفكر -صاحب الرؤية – القائد -الشخصية القيادية أو الزعامية – وأخيراً المنفذين -الجنود المجهولين- نجاح المشاريع يتأثر بعوامل عديدة وأهمها المنفعة التي يعود بها على الفرد، المجتمع والأُمَة، ثم يربط العبادة بهذه المشاريع، إذا كان المشروع يعود بالمنفعة على الأمة فهو يحقق هنا وظيفته الأساسية ألا وهي التغيير والإصلاح، فمهما تعددت المشاريع واختلفت ستبقى كلها وسائل تصب في تيار التميز؛ لتخدم هدفاً واحداً لا غير، ووظيفة العبادة هنا هي أن تغير فينا لنغير نحن بدورنا في هذا العالم.
البدايات غالباً ما تكون صعبة، شاقة، مليئة بما قد يعرقل الطريق، لكن بناة التغيير يدركون هذا، يدركون أنه لا تغيير دون استمرار، والاستمرارية هنا مهمة للوصول للنقطة المحددة، حقيقة التغيير الذي نريده يكمن فينا، في مكان ما بداخلنا، وبشكل آخر يتجسد بين أيدينا، يبدأ هذا الأخير بعملية فرز الأفكار وترتيبها، توجيهها نحو العمل ضمن خطة واستراتيجية دقيقة توضح الخط الذي تسير وفقه، الغاية من كل مرحلة فيه، وصولاً إلى الهدف، دون أن ننسى الحرص على توافق سيرورة العمل ووحدته لضمان تحقيقه وتجسيده على أرض الواقع.
البقاء لا ينحصر على وجودنا اليوم ضمن صخب هذا العالم، بل على أن تحيا أعمالنا بعد أن تفنى أعمارنا، أن نقدم ما استطعنا قدر ما استطعنا، أن نتأثر ونؤثر في هذا العالم باختلافاته، بتنافر الأفكار وتجاذبها فيه، أن نفعل ما خلقنا لأجله، أن نوسع الرؤية ونتعمق في المفاهيم فنخرج من المفهوم الضيق للعبادة إلى المفهوم الواسع لها، فإعادة بناء وإصلاح هذا العالم مشروع خلقنا الله لإتمامه: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، نعم "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.