جرت الانتخابات الألمانية وتجدد معها السؤال القديم الجديد، عن موقف الإسلام من الديمقراطية.
ففي الوقت الذي يسعى فيه كثير من المسلمين في هذا البلد -خاصة من أبناء الجيل الثاني والثالث- إلى الانخراط بشكل إيجابي في المجال السياسي بصفتهم مواطنين ألماناً من جهة، ومن جهة ثانية للوقوف في وجه الأحزاب والتيارات العنصرية التي أصبحت تقتات على نشر الخوف من الإسلام وبث روح الكراهية بين المواطنين ..إلخ.
في هذا السياق، ومع تجدد كل انتخابات، تتم مساءلة الإسلام أو بالأحرى مساءلة الفقهاء المسلمين عن موقفهم من الديمقراطية.
فإضافة إلى أسئلة أخرى مثل: الخلافة، ومفهوم الدولة، والمجتمع المدني … إلخ؛ كان -ولا يزال- سؤال الديمقراطية من أكثر الأسئلة إرباكاً للفكر والفقه الإسلاميين؛ فإلى حد الآن ما زال الموقف من هذا المفهوم ضبابياً تتصارعه آراء الفقهاء والمفكرين المسلمين، بين ذاهب به إلى أقصى اليمين، وراجع به إلى أقصى اليسار، ومُحَاولٍ الوقوف به في نقطة الوسط، وهو أمر ينعكس سلباً على جماهير المسلمين بشكل عام، وعلى الأقليات المسلمة في أوروبا بشكل خاص.
فالموقف من الديمقراطية في إطار المرجعية الإسلامية تتنازعه اليوم أصوات ثلاثة:
صوت يرى الديمقراطية شِركاً وكفراً؛ لأنها -حسب رأيه- تسمح للبشر بالتشريع من دون الله.
وصوت ثانٍ فيه نوع من المداهنة، بحيث يرفض الديمقراطية كأصل ومبدأ، ويسمح ببعض وسائلها، مثل الانتخابات، أي إنه يريد أسلمة الديمقراطية!
وصوت ثالث لا يرى مانعاً من قبولها والأخذ بها.
هذا الصوت الأخير هو أكثر الأصوات بحّةً وحَشْرَجةً في الوقت الراهن حول هذا الموضوع، بحيث لا يكاد يُسمع أنينُه في ظل الجَلَبَة والصّراخ الذي أحدثه أصحاب الموقف الأول، الذي يعتبر أكثر هذه المواقف تشدداً وإغراقاً في العداء لمسألة الديمقراطية؛ إذ يزعجه في الديمقراطية كونها أسلوباً في الحكم يسمح بالتداول السلمي على السلطة وإنشاء مؤسسات تسمح بسن القوانين التي تضمن التعايش بين المواطنين غالبيتهم وأقليتهم .. إلخ؛ أي كونها إحدى ركائز المجتمع المدني؛ وهو ما يعني من ثم مناقشة بعض المواضيع مثل الحرية الفردية وحرية العقيدة.. إلخ، وهو ما لا يسمح به أصحاب هذا التيار إطلاقاً.
هذا الموقف العنيف من الديمقراطية هو الموقف السائد حالياً في أوروبا والغرب عموماً، والذي أصبح يَنفذ بشكل خطير إلى عقول بعض الأجيال المسلمة الجديدة في أوروبا.
في الوقت الذي تبذل فيه بعض المؤسسات الإسلامية مزيداً من الجهود للدفع بالشباب المسلم إلى الانخراط في المجال السياسي؛ لما له من إلحاح في الوقت الراهن نتيجة لمجموعة من الاعتبارات ..إلخ، هناك في المقابل حملة يقودها آخرون هدفها التشويه على هذا المسعى من خلال نشر الفتاوى التي تحرم الديمقراطية وما ينتج عنها، وتًقرن كل ذلك بالكفر والشرك.
والمؤسف هنا، أو بمعنى أدق، الأمر الذي لا يجوز السكوت عنه، أن مصدر هذه الفتاوى ليس مجرد شيوخ لهم آراء متشددة في هذه القضية يمكن تجاوزها، وإنما مصدرها مؤسسات وهيئات رسمية تنتمي إلى بعض دول العالم الإسلامي؛ وذلك مثل فتاوى اللجنة الدائمة.
وفي مقابل هذه الفتاوى المكفِّرة للديمقراطية، تبقى كثير من الهيئات والمجامع الفقهية الأخرى في العالم الإسلامي مُعْرضةً عن هذا الموضوع بالمرة، وكأنها بذلك تقر فتاوى اللجنة الدائمة، أو تتناوله بمجموعة من التقييدات التي لا تحل إشكال الموقف من الديمقراطية بقدر ما تزيده تعقيداً وضبابية في ذهن المسلم العادي.
سؤال الديمقراطية يبقى إذن سؤالاً ملحّاً، ينتظر الجواب من الهيئات الفقهية الإسلامية، وهو أكثر إلحاحاً، خاصة على الفقهاء الذين أصبحوا يهتمون بما أطلقوا عليه "فقه الأقليات"، أو "فقه الاندماج"… إلخ؛ ويقصدون به الفقه المرتبط بالمسلمين الموجودين في أوروبا والغرب عموماً؛ فهؤلاء أول من يجب عليهم أن يحسموا مواقفهم من قضية الديمقراطية والمفاهيم المتصلة بها مثل المجتمع المدني وحرية العقيدة.. إلخ؛ مع ضرورة الانتباه هنا إلى خطورة الوقوع في ازدواجية الموقف، بمعنى أن يقال بإباحة الديمقراطية للمسلمين في البلدان الغربية والحكم بحرمتها ومخالفتها للإسلام في البلدان الإسلامية؛ فذلك سيكون أشبه بنوع من العبث.
هذا السؤال أصبح هنا أكثر إلحاحاً على المجامع الفقهية؛ ذلك لأن كثيراً من الشباب المسلم ممن انخرطوا في العمل السياسي أصبحوا يتعرضون لنوع من الإرهاب الفكري من أتباع الصوت المكفّر للديمقراطية، خاصة عندما يتناول هؤلاء موضوع الديمقراطية بنوع من السطحية وسذاجة الفهم، فيربطون مثلاً بين برنامج الحزب ككل -والذي يكون عبارة عن حزمة متكاملة من المطالب التي تسعى إلى تلبية أكبر قدر من منتظرات المواطنين- والموقف الخاص للمسلمين المنتمين إلى هذا الحزب.
فمثلاً، الحزب الاجتماعي الديمقراطي لألمانيا، والمعروف اختصارا بـ"SPD"، والذي ينشط فيه كثير من المسلمين، والمعروف بمواقفه الإيجابية من الأجانب عموماً والمسلمين خصوصاً، يرفع ضمن برنامجه أيضاً: "الزواج للجميع"؛ وهو ما يعني أنه لا يعارض المثلية الجنسية.
أخيراً، في انتظار أن تدلي هذه المجامع الفقهية بدلوها في هذا الموضوع، أتمنى حظاً موفقاً لجميع الأحزاب التي ترسخ القيم الديمقراطية وتنبذ الكراهية بين المواطنين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.