لا شكّ في أن تمسك الشّعب التّركي، ونخبته السياسية مجتمعة، وقطاعات مهمة جدا من مؤسّسات الدّولة التّركية، والإعلام الحرّ، بالدّيموقراطيّة والشّرعيّة الدّستوريّة ودولة القانون، مثل حالة إجماع وطني فريدة هي من أفشلت مُحاولة الانقلاب العسكري الأخيرة، ذلك أنّ للشّعب التّركي في تاريخه الحديث حصادا مريرا من الخراب مع الانقلابات العسكريّة على مدار خمسة عقود، بدءا من انقلاب الجنرال جمال جورسيل في أيار/مايو 1960، مرورا بالانقلاب الّذي عرف بـ "انقلاب المذكّرة" في آذار/ مارس 1971 ثمّ انقلاب الجنرال كنعان إفرين في أيلول/سبتمبر 1980، وهو أكثرهم دمويّة وقمعا، ووصولا إلى آخر انقلاب، وهو الانقلاب على رئيس الوزراء نجم الدّين أربكان في شباط/فبراير 1997.
أضرّ هذا التّاريخ الأسود من الانقلابات العسكريّة بالحياة السّياسيّة والاقتصاديّة في تركيا أيما ضرر، وهي الّتي كبّدتها خسائر غير مسبوقة، وعزّزت الخلافات الدّاخلية وسادت بسببها حالة شديدة السّواد من القمع والظّلم. بعد ذلك، وبعد صعود حزب العدالة والتّنمية للحكم في العام 2002 وبفضل (15) عامًا من المسيرة الدّيموقراطيّة المتّسقة، استشعر الأتراك في أثنائها، وبوجه مطّرد ومُتصاعد الثّمار الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة لهذه المسيرة الديموقراطيّة على الوجهِ الّذي دفعهم إلى رفض العودة إلى هذا الماضي الكريه، والتّفريط في هذه المسيرة المنيرة.
تصدى الأتراك لمحاولة الانقلاب العسكري الأخيرة على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم ليس بسبب حبّهم لأردوغان، وإن كان الرّجل صاحب كاريزما حقيقية وقيادة ناجحة حقّقت نتائج ناصعة ملموسة. إضافةً إلى أنّهم لم يجتمعوا على إفشال الانقلاب حبًّا أو تبعية لأيدولوجيّة أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يصف نفسه أنه حزب محافظ. فمن ناحية كافح العلمانيون والقوميّون والأكراد الانقلاب -وبوضوح- منذ لحظته الأولى، مثلهم في ذلك مثل حزب العدالة والتنمية وأنصاره المباشرين. تمثّل هذا جلياً في هذا البيان الجماعي الصّادر عن كلّ الكتل السّياسيّة الممثلة بالبرلمان.
لكن هذا الإجماع التّركي على وأد الانقلاب العسكري على الشّرعيّة في تُركيا، تحقّق بفضل القيادة الذّكيّة والعمل الدّؤوب ومُحاربة الفساد والإنتاج والإبداع والنّتائج الملموسة الّتي حقّقها أردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتّنمية على مدار (15) عامًا، هي مسيرة الدّيموقراطيّة التّركيّة الحديثة المتّصلة بعد آخر انقلاب عسكري، استطاعوا بواسطتها أن يقدّموا نموذجا ناجحا في الحكم يخدم معاش الشّعب ورفاهية المواطن التّركي وصيانة كرامته وتقدّم الدّولة التّركيّة حتّى صارت الاقتصاد السّابع عشر الأقوى في العالم، موازنين بين هذا وقيمهم الفكرية وثوابتهم الأخلاقيّة وهويتهم الحضارية الإسلاميّة الّتي تربّوا عليها ويفخرون بها ويتمثّلونها على القدر الّذي يقتضيه الواقع في دولة علمانيّة حتّى النّخاع؛ فحزب العدالة والتّنمية يَصف نفسه بأنّه حزب ديموقراطي محافظ، أو حزب ديموقراطي إسلامي مستحضرًا -دائمًا- المقاربة بينه وبين الأحزاب الدّيموقراطيّة المسيحيّة في الغرب، مرسلاً بذلك رسالة إليهم مفادها أنه يمكن للجميع أن يكون ديموقراطيا وهو متمسك بجذوره وبهويته الحضارية والقيمية والثقافية.
بالفعل نجح حزب العدالة والتنمية وقياداته في أن يحقق نجاحاً غير مسبوق في تركيا حتى صارت في مصاف الدول الكبرى، وهو نجاح يفخر به جميع الأتراك، ويستحق الإشادة به. لم يعتمدوا في تحقيق ذلك على لافتات أيديلوجية لأنهم أدركوا أن هذا ليس دورهم كرجال سياسة ورجال دولة، ولو اعتمدوا على ذلك ما نجحوا هذا النجاح. بل إن الشاهد أن القطاعات الأوسع من الإسلاميين في منطقتنا العربية مازالت، وحتى وقتنا هذا، غير مستوعبة لهذا، بل وتعدّ أردوغان علمانيًّا لا يمثّل المشروع الإسلامي الذي تحلم به هي في الأساس، وهذا بالمناسبة ليس سراً، بل يُمثّل فكرًا سائدًا عند القطاعات القيادية في أهم الحركات الإسلامية وأوسعها انتشارا.
لعل أفضل ما يجسد تلك المقاربة والموازنة الّتي أتحدّثُ عنها، وأحاول أن أبرزها، وعلى سبيل التّحديد لا المثال، هو: رئاسة تركيا هذا العام، ممثّلة في رئيسها رجب طيب أردوغان، لقمّة الدّول العشرين (أقوى عشرين دولة اقتصاديّة في العالم) ورئاستها لمنظّمة المؤتمر الإسلامي في آن واحد.
هنا تكمن صعوبة المعادلة وتحديات المرحلة الّتي خلّفتها المحاولة الانقلابية الخائبة وكشفتها. تتمثّل المعادلة الصّعبة في تركيا الآن في كيفيّة مواجهة منابع الانقلاب والدولة الموازية الّتي باتت آثارها المخرّبة واضحة للعيان بوجهٍ لا يقبل التّشكيك، دون المساس بجوهر التّجربة التّركية الدّيموقراطيّة النّاجحة الّتي مثّلت الحصن الحصين، والملاذ الآمن، للشّعب التّركي من الانقلابات العسكريّة.
الموازنة بين الحسم في مسألة تطهير المؤسّسات، وهو الأمر الواجب لاستئصال المرض، على ألّا يتعارض هذا بحال، أو يؤثر بالسّلب على الاستمرار في مسيرة تقوية الممارسة الدّيموقراطيّة والاستثمار في ترسيخ قيم دولة القانون والمؤسّسات والحريّات؛ وإلّا فقدت تركيا جهازها المناعي المُكافح للانقلابات الّذي ثبتت فاعليّته.
تلك ليست بالمعادلة السّهلة بأيّ حال؛ ولكنني أعتقدُ أنّ حلّها ليس صعبًا على من أدار الـ (15) عامًا السّابقة بنجاح، إن هم وازنوا بين الحسم والحكمة، والتّطهير والحفاظ على المؤسّسيّة، والردع ودولة القانون. ستخرج تركيا من هذة الأزمة أقوى بكثير، وبشكل مستدام، إن احتفظت بتماسك جبهتها الداخلية على الشكل الذي رأينا فيه البيان المشترك لكل كتلها السياسية مجتمعة، خصوصاً عند اتخاذ القرارات الحساسة والمصيرية.
وسيحتفظ المجتمع التركي بتماسكه وبمناعته ضد الانقلابات بالمزيد من التمسك بقيم الديموقراطية التي تحتاج إلى عدالة ناجزة حاسمة، بعيداً عن تأجيج مشاعر الانتقام في المجتمع وعن العقاب الجماعي على الهوية.
فتركيا ليست في لحظة ثورة لتعمل بشرعية ثورية لمرحلة انتقالية لتؤسس بعدها ديموقراطية، بل هي في لحظة مواجهة توابع وجذور انقلاب فشل بالأساس بسبب تمسك الشعب بالديموقراطية التي مارسها وعاشها و جنى ثمارها على مدار 15 عاما، ولم يكن ليفشل الانقلاب لولا هذا.
هذه هي المعادلة الصّعبة، وهذا هو دور السّياسيّين ورجال الدّولة، بعيدا عن الشعبوية، خصوصا وسط محيط إقليمي ملتهب ووضع دولي مشتبك. حفظ الله تركيا والشّعب التّركي الّذي يُسطّر تاريخًا ملهمًا لشعوب المنطقة، ويقدم تجربة فريدة في بناء الدّول والمؤسّسات وإفشال المؤامرات والانقلابات.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.